بسم الله الرحمن الرحيم

لقد كثر الحديث عن الجودة سواء في المؤسسات الصحية أوغير الصحية. غير أن التطبيق الفعلي لهذا المفهوم مازال دون المستوى المطلوب!  فما سر ذلك؟ وهل الجودة أمر سهل في ظاهره ممتنع في تطبيقه؟  أم أن  هناك أمورا لم تؤخذ في الحسبان ليتم الارتقاء بهذا المفهوم وتظهر آثاره للعيان؟  إن المتمعن في موضوع الجودة يجد أن هناك حلقات ضائعة لها علاقة بهذا الشأن، ونظرا لأهمية تلك الحلقات سنحاول سبر بعضها عبر مقال في جزءين (الجزء الأول: تطويع نماذج الجودة على الواقع المحلي، وأهمية التكامل بين المؤسسات، والجزء الثاني: شهادات الطلاب عن فوائد مبادرة “سواعد العمل”، وأثر المبادرة في تهيئة الطالب لتطبيق الجودة).

 

1) تطويع نماذج الجودة العالمية على الثقافة المحلية، وأهمية التكامل بين المؤسسات

لقد تنامى التذمر من نوعية الخدمات الصحية خلال السنوات العشر الماضية بشكل ملحوظ؛ مما  دعا  كثير من الجهات الصحية إلى اللجوء لتبني العديد من نماذج الجودة العالمية في القطاع الصحي، ومن أشهرها نموذج دونبيديان (Donabedian) للجودة، والذي بين فيه أعمدة الجودة في القطاع الصحي وهي: الفاعلية، والكفاءة، والمساواة، والتكلفة، والمثالية، والشرعية، والقبول.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه : هل تبني مثل هذا النموذج  كفيل بتطبيق الجودة في القطاع الصحي لدينا؟   إن هذا النموذج مبني على افتراضات وواقع مختلف عما لدينا، ويستقي هذا النموذج مقوماته في الجودة من المفاهيم والقيم والثقافات التي تسود الدول الغربية، ويبدو لي أنه من باب حرصنا الشديد على تسريع الارتقاء بالجودة، فاتنا أن نأخذ في الحسبان ضرورة  تقنين وتطوير مثل هذه النماذج  لتتوافق مع الثقافة المحلية،  ولم نحرص على تبني الحلول المنظومية (System Approach) في تطبيقها.  وهذا في رأيي أحد أهم الحلقات الضائعة في تحقيق  التطبيق الفعال للجودة في منشآتنا الصحية.  ولذا حاولت – بالتعاون مع طلاب مقرر إدارة الجودة الصحية – تطويع نموذج دونبيديان على واقعنا المحلي، وتم اقتراح تعديل النموذج المعدل لدونابيديان (شكل 1) ؛ فوجدنا أن هذا النموذج لا بد أن يكون له ممكّنات (Enablers) تساعد في تطويعه مع واقعنا المحلي لكي ينجح ، وقسمنا الممكّنات إلى أربعة مستويات: روحية، قيمية، إدارية، بشرية (HR).

فالممكنات الروحية أساسية في عملية تفعيل الجودة، فالمسلم حين يستشعر معية الله؛ لا شك أن ذلك سيؤثر على الجودة؛ إذ إنه سيتقن عمله بغض النظر عما إذا كان مديره موجوداً أم لا؟، وسواء أكانت المؤسسة تنتظر قدوم مراجعيين خارجيين لمنح الاعتماد ام لا؟  كيف سيكون حال الموظف عندما يشعر أن كل مريض يأتي إلى المستشفى إنما هو رزق ساقه الله إليه ليكسب الأجر، وتحل عليه البركة في راتبه وأسرته وعمره.

أما الممكنات القيمية فهي تغرس مفهوم الجودة في أعماق الإنسان، فالإنسان حين يقتنع بمنصبه (اي رزقه) الحالي لا يتأثر كثيراً حين تتأخر ترقيته – لسببب ما – وبالتالي لن تضعف همته ولن  تقل إنتاجيته عن سابق عهده، وستدفعه هذه القناعة إلى تقديم ما بوسعه من خدمة لكل مراجع من المواطنين.  وإذا تبنى الإنسان لنفسه مفاهيم عن حب العمل وأنه عبادة وشرف، سينعكس ذلك حتماً على أدائه في العمل.  ولنا أن نتصور موظفاً قلبه مفعم بالحب لزملائه ولمن حوله، كيف سيتعامل مع أخطاء زملائه؟ وكيف سيتغافل عن حدة بعض المراجعين؟ ايضاً ومما لا شك فيه‘ فإن الثقة بالنفس لا تقل أهمية عما سبق، فمن هنا ينبغي على المؤسسة الراشدة غرس معاني الثقة بالتفس في موظفيها ؛ من خلال التوعية والتدريب والحوار، لأن فاقد الثقة في ذاته قلما ينتج عملاً متسماً بالجودة.

وأما الممكنات الإدارية فهي تتطلب ضرورة إصلاح الثقافة المؤسسية، وممارسة القيادة الفعالة، والعمل بروح الفريق، وأن يكون العميل محور اهتمام المؤسسة، كما ينبغي على قيادة المؤسسة أن تحسن إدارة مقاومة التغيير، وأن تستأصل مسببات وجذور الفساد فيها.

وأخيراً فلا بد من الاهتمام الصادق والعميق بممكنات الموارد البشرية، ويأتي في مقدمتها اختيار الموظفين في ضوء معايير عالية للتوظيف، فلا يعين الشخص ولا يعطى المنصب الا بناءً على معايير موضوعية، ومن ثم العمل الدؤوب على تمكينهم، وتمهيرهم، وتقويم أدائهم باستمرار، وتدريبهم تدريبا قائما على احتياجاتهم المهنية الفعلية، ومن ثم تطوير أدائهم؛ في ضوء ممارسات راشدة للكوادر البشرية التي تعتبر قطب الرحى في العمل المؤسسي وعموده الفقري؛ بدونها لا يمكن إنجاز العمل والارتقاء به.

 2زكي

وهناك حلقة أخرى مرتبطة بعدم قدرة المؤسسات المختلفة كمؤسسات التعليم العام والجامعي على زرع ثقافة الجودة في المتعلم قبل دخوله إلى سوق العمل كطالب عمل.  إن من أهم بدهيات الجودة أن يكون الإنسان ملماً ببيئة العمل، ومزوداً بمفاهيم ومهارات أساسية تعينه على أداء عمله بجودة وإتقان، ولذا مهما حاولت المؤسسات تطبيق معايير الجودة من خلال ال ISO Certification أو ال TQM أو ال EFQM، فإنها لن تنجح في التطبيق الفعال للجودة.

ومن المعروف أن أغلب جامعات العالم لا تهيئ الطالب للحياة (ومن ذلك الحياة المهنية) بالشكل المطلوب،  ففي استبيان أُجري مؤخراً في بريطانيا، وجد أن ما نسبته 18% فقط يرون أن الشهادة الجامعية تؤهل الخريج لسوق العمل؛ على الرغم من أن كبار التربويين مثل جون ديوي ووليام جميس قد فطنوا إلى ذلك منذ بداية القرن العشرين!   ولذا فقد اقترحوا طرقاً رائدة مثل: التعلم عن طريق خدمة المجتمع (Service Learning)، وهي طريقة أصيلة تهدف إلى تعميق المفاهيم المعرفية في الطالب، وتهيئته للحياة، ونقل المعرفة إلى خارج أسوار الجامعة. 

ومن تجربتي الشخصية، وجدتُ أنه من الصعب على أستاذ بمفرده أن يقوم بمبادرة فعالة لردم الفجوة بين التعليم النظري وحياة الطالب المستقبلية، ولكني فوجئت قبل عامين ببريد الكتروني – من فريق دراسات بوزارة العمل –  يطلب فيه ممثل فريق دراسات مشاركة أعضاء هيئة التدريس بالجامعات السعودية في مبادرة تسمى “سواعد العمل”، والتي تهدف إلى استخدام طريقة ال “Service Learning” لتهيئة الطلاب لسوق العمل! وقد سعدت كثيرا بتلك البادرة ؛ إذ لم أكن أتصور أن هناك جهة مؤسسية تدق الجرس، وتضع اتجاهاً صحيحاً للتعامل مع هذه الإشكالية المستعصية: تهيئة الطلاب لسوق العمل. إن ذلك حتماً من خير ضمانات تطبيق الجودة في المؤسسات.

لقد قمت باستخدام هذه الطريقة مع طلابي في قسم الإدارة الصحية في ثلاثة مقررات : (السلوك التنظيمي في المؤسسات الصحية، الجودة في المؤسسات الصحية، إدارة الموارد البشرية في المنشآت الصحية)، وكانت النتيجة مرضية جداً (فضلاً انظر أدناه)، ولا أعزو ذلك لي شخصياً بكل تأكيد، وإنما لوزارة العمل ، ودورها التكاملي الذي أحدثته مع الجامعات. ولعل في ذلك ما يؤكد أن التكامل بين المؤسسات يرسخ ثقافة الجودة والتغيير الفعال في أعماق المجتمع، فلا تبقى الجودة مجرد شهادات يسهل الحصول عليها أو يُتفاخر بها في الإعلام، دون أن تكون لها ترجمة حقيقة في الحياة اليومية للمؤسسة. 

في الجزء الثاني من المقالة، سنوثق شهادات الطلاب على استفاداتهم من تجربة “سواعد العمل” وأثر المبادرة في تهيئة الطالب لتطبيق الجودة بشكل فعال عندما يدخل سوق العمل.

 

 

أ.د. زكي بن شاكر بن عبدالله صدِّيقي

[email protected]

أستاذ جامعي ومستشار التعلم المؤسسي