إزرع جودة تحصد صحة قطافها سلامة

نعتبر الأسبوع الوطني التاسع للجودة عرس من أعراس الجودة لكل من كان الإتقان غايته، ووسام فخر على صدر المهنيين المتطوعين بالمجموعة الصحية بالمجلس السعودي للجودة. هذا الصرح الذي احتضن رسالة الجودة منذ تأسيسه عام 1995م، وتلك المجموعة الذي سطرت ومازالت تعمل على النهوض بالجودة وتطبيقاتها في الخدمات الصحية منذ تأسيسها عام 2003م على أيدي متطوعين احترافيين من عمق المجال الصحي بفكر مشترك لنشر ثقافة الجودة ودعم التكامل ما بين القطاع الحكومي والخاص والأكاديمي.

بعد مرورعقد ونصف على حراك الجودة في الخدمات الصحية،والتركيز على اكتساب شهادات الاعتمادات الصحية سواء المحلية أو الدولية، التي أصبحت الشغل الشاغل لكافة القيادات الصحية والهاجس المربك لمقدمي الخدمة من القطاع الخاص، و العبء الزائد وغير المرغوب فيه  للعاملين في المجال الصحي كافة، لا بد لنا اليوم من برهة للوقوف على هذه المسيرة والتجربة لمعرفة وهضم الدروس المستفادة، و تقدير حجم الإيجابيات للاستفادة والانتفاع واستثمار الفرص ومعالجة التحديات.

من الإيجابيات أن شهادات الاعتماد للجودة سواء المحلية أو الدولية قد نالت اهتمام القيادات الصحية وذلك لضرورة الجودة وتطبيقاتها في تقييم الخدمات المقدمة على معايير محددة ودفعتهم لتبني نهج إدارة التغيير “Change Management”. وقد ساعدت في كونها أداة تحسين بدفع عجلة تطوير السياسات والإجراءات، بغية استحداثها أو تحسينها في المقام الأول، ومن ثم تعميق مفهوم إدارة العمليات “Processes Management”،الذى أدى إلى ترابط بعضها البعض في كافة الإدارات كمنظومة موحدة وعلى مدار السنين باستخدام إدارة الانتفاع “Utilization Management”، وصولا لابتكارآليات جديدة ومبسطة تحد من الهدر في الوقت كما في تطبيق الحيود السداسي “Lean Six Sigma” على سبيل المثال لا الحصر. وقد أوضحت هذه الاعتمادات مدى الحاجة إلى كفاءات مهنية ذات مهارات احترافية عصرية متنوعة من حيث التواصل الفعال والتأقلم مع إدارة التغيير، وكذلك القدرة على حل المشاكل المعقدة، والتفكر التحليلي، وإدارة الوقت، و التفاوض بالنتائج، واللباقة مع المستفيدين،والتعامل  ضمن فريق واحد، وهي بذلك تتعدىالشهادات الجامعية والخبرات الجامدة، مما سوف يساعد على فهم آلية التقييم الوظيفي المستقبلي والمبني على الإنتاجية ومؤشرات الأداء. وللاعتمادات دور فعال في الكشف عن الأخطاء الطبية والتميز بينها وبين الأخطاء الصحية الناتجة عن خلل في النظام الصحي للمنشأة، وحصر معدلات العدوى والإفصاح عنها بشكل دوري ووضع خطط لتلافيها وآلية التعامل معها في حالات الانتشار والطوارئ، ناهيك عن الكشف عن إمكانيات ومعايير السلامة  بالمنشآت الصحية وجاهزيتها في حال الإصابات المهنية والكوارث والأزمات وتبعاتها على الصحة والبيئة.

ومن التحديات الصريحة والواضحة أن هذه الاعتمادات قد قامت بتحريك المياه الراكدة بكشف الثغرات في الأنظمة والسياسات والإجراءات الصحية والدور القيادي السطحي في تصحيحها وتطويرها على مدار السنين،وكشفت عن مدى عمق الفجوة مابين كفاءة العاملين كمخرج  ومحصلة للتعليم الصحي بكافة فئاته ومجالاته ومستوياته واحتياجات سوق العمل في الخدمات الصحية سواء الخاص أو الحكومي أوالأكاديمي. فعلى سبيل المثال إن أدوات الجودة; سواء من تتبع مسارات العمل ومنحنى باريتو وتحليل الأثر والسبب ومنحى التحكم والعصف الذهني والتصويت الرقمي ودائرة التحسين وحلقات الجودة ولوائح الرصد وغيرها من الأدوات;لا تطبق وتمارس في العمليات اليومية، بل تعدت ذلك لتصبح عبء غير مرغوب فيه لا يمارس إلا في فترات محددة كما في قبل الاعتماد أو لتبرير الميزانيات أو اكتساب المواقف أو الترقيات. وهذه محصلة طبيعية جدا لأن مفاهيم الجودة وأدواتها كثقافة ليست مغروسة في مناهج التعليم في معظم المراحل الدراسية ولربما متواجدة ولكن بشكل سطحي في المنهاج الجامعية وما قبل الدراسات العليا.

مثالا على ذلك لا يمكن للفريق الصحي أن يطبق قاعدة 20/80  في معرفة أن 20% من الأسباب البسيطة قد تسبب 80% من المشاكل باستخدام منحى باريتو، وعليه يمكن أن يعالج بها الأمراض المستعصية كالربو والسكر، وهم لم يتعرضوا لها ويتمرنوا على تطبيقها في الكليات المهنية كالطب والعلوم الصحية فكيف بتطبيق منهجية الحيود السداسي في تقليل مدة الانتظار في الطوارئ والتنويم الداخلي وتوثيق الخطة العلاجية والتأكد من سلامة الدواء وتوصيات الخروج وتعليم المريض وأسرته. نستطيع القياس على ذلك ثقافة السلامة والوقاية من العدوى في المنشآت الصحية والتي أصبحت تحديا صعبا على المنشآت الصحيةأثقلت على ميزانياتها في التدريب على غسل اليدين واستخدام طفايات الحريق وطرق الإخلاء والتنفس الاصطناعي وتطهير الانسكابات البيولوجية والتخلص السليم من النفايات الطبية، وهي أساسيات بسيطة من صميم المناهج الدراسية من نواعم الأظفار في غسل اليدين ما قبل وبعد الأكل إلى لإخلاء الأمن في مراحل الثانوية و الجامعية.  

وبالكفة المقابلة فقد تطورت الجهات المانحة لشهادات الاعتماد واكتسبت خبرات محلية وإقليمية عن ثقافة المنشآت وقياداتها والعاملين بها، وارتفعت معاييرها وبتسارع قد فاق جاهزية المنشآت فأصبحت تركز على ثقافة السلامة وبيئة الرعاية الصحية المتكاملة، وترقى للشفافية والثقافة العادلة المبنية على الإفصاح والتواصل الفعال ومنح الثقة للعاملين بهدف التمكين وتحسين الأداء. ونحن بالمجموعة الصحية لا بد لنا من وقفة مع هذا التطور النوعي، ومن فلسفتنا أن لا نعتبر ما سبق ذكره أنفا تحديات، بل فرص تحسين وتطوير يجب الاستفادة منها واستثمارها بشكل أفضل لغد تصبح فيه ثقافة الجودة والتميز والسلامة والصحة والبيئة ركيزة أساسية في مناهج العلوم الطبية والصحية لبناء جيل واعد, وإعادة صياغة مفاهيم أدوات الجودة واستخداماتها الصحيحة والسلامة والصحة والبيئة، لتطوير كوادر العاملين الحاليين بفهم الاحتياجات الأساسية وتحسين وتمكين العاملين بالخطوط الأمامية في أفق تتعدى سقف النجاح في اعتمادات وشهادات الجودة بحيث يكون المستفيد نواتها لبناء ما يعرف الآن “بتجربتي الصحية” أي “Patient Experience”/ “Worker Experience” للمرضى وأسرهم  والعاملين على حدا سواء.

ولشرح ذلك فعلى سبيل المثال فإنه لا بد من التميز ما بين الخطر “Hazard” والمخاطرة “Risk”والذي يخطئ في ترجمتهما واستيعاب الفرق ما بينهما والتفاضل في التحصن بمن أولا الكثير من العاملين. فإن الخطر شيء كامن بالمادة نفسها كالمواد الكيميائية بأنواعها أو متواجد بالطبيعة كالزلازل والأعاصير والفيضانات وغيرها, أما المخاطرة فهي سلوك بشري متهور كالسرعة الزائدة وقطع الإشارة الحمراء ونستطيع ضبطه وتقييمه. ومن هذا المنطلق لا يمكن لقيادة منشأة أو من ينوب عنها لا تعرف هذا الفرق في الترجمة في دراسة تقييم المخاطر ووضع خطة باللغة الانجليزية، وأن تقود دفة التحكم وإدارة خطة الطوارئ والتدريب عليها بهدف الاعتماد فقط. باعتقادي أننا بحاجة أكبر بكثير في التركيز على منع الخطر والحد منه في المقام الأول قبل عمل تقييم للمخاطر والاستفادة من صناعات لها السبق في ذلك مثل الطيران والنقل. فأرى أن ثقافة السلامة العادلة المؤسسية ماهي إلا طريق متوازي لاتجاهين متعاكسين، فعلى مستوى القيادة يتم بالشفافية،وعلى مستوى الخطوط الأمامية يتم بالإفصاح بدون عقاب مبيت. وفي الختام لا بد للزرع والغرس من رعاية ممنهجة واضحة المعالم ذات نظرة شمولية ومتكاملة ومتفائلة لنحصد صحة قطافها ثقافة السلامة على المدى الطويل بدلا من الإصرار على شعار أن السلامة أولا!

 

د. نشأت أنور النفوري

رئيس المجموعة الصحية وعضو تنفيذي

المجلس السعودي للجودة

[email protected]

www.sqc.org.sa