تعددت مفاهيم الجودة وتحسين الأداء في شتى المجالات ومن ضمنها الخدمات الصحية. وتعدد هذه المفاهيم يعود للزاوية التي ننظر منها لهذه الجودة وكذلك الفائدة المرجوة منها. ولعل من أهم هذه التعريفات والتي تتناسب مع مقالنا هذا هو أن الجودة تعني المطابقة مع المواصفات والمعايير.

ولكون الخدمات الصحية وطبيعة الخدمة التي تقدمها تتسم بشيء من التعقيد، بات الأمر مهماً لمقدمي الخدمات الصحية وأصحاب المصالح ، ونقصد هنا الأطراف الأخرى المؤثرة في أو المتأثرة بالخدمة التي تقدمها تلك المرافق الصحية على مختلف أنواعها وتخصصاتها وأحجامها، في كيفية تحسين أداء تلك المرافق الصحية بشكل شمولي وفعال.

ظهرت العديد من الأدوات والمنهجيات التي قد تستخدم في تحسين الأداء والتي تجاوزت العشرين (20) أداةً ومنهجيةً، ومن ضمنها تلك الإعتمادات الخارجية والتي نقصد بها تطبيق معايير مهنية ، مثل معايير المجلس السعودي لإعتماد المنشآت الصحية (سباهي CBAHI) ، اللجنة الدولية المشتركة (JCI) وهي معايير أمريكية تعود لجهة الإعتماد الأمريكية الأم ( جاكو JACHO)، وغيرها من الإعتمادات التي وصل عددها إلى سبعين (70) جهة إعتماد وطنية ودولية. هذه المنهجية في التحسين تعتبر من أكثر المنهجيات تأثيراً على مستوى الخدمات الصحية المقدمة من قبل المرافق الصحية ولازالت حتى هذه اللحظة محل إهتمام الباحثين في كيفية زيادة كفاءتها وفعاليتها والحصول بالتالي على مخرجات أفضل.

المملكة العربية السعودية تعتبر من أولى دول الشرق الأوسط التي طبقت مثل هذه المعايير المهنية على مستشفياتها، حيث بدأت بتطبيق المعايير الأمريكية ( اللجنة الدولية المشتركة JCI) في بعض مستشفياتها، ثم اتسعت دائرة هذه التطبيق شيئاً فشيئاً إلى أن تم إنشاء معايير سعودية وطنية بمسمى المجلس السعودي لإعتماد المنشآت الصحية ( سباهي CBHAI)،والذي نشأ في 2005 م ولاتزال المستشفيات والمرافق الصحية (حكومية وخاصة) في المملكة تطبق معاييره حتى هذه اللحظة.

تطبيق معايير سباهي أو غيرها من المعايير يهدف في المقام الأول إلى تحسين مستوى الخدمات الصحية المقدمة والحفاظ على سلامة المرضى، وهذا هو جوهر هذه المعايير، وإن اختلفت النظرة لتطبيق هذه المعايير فان النتيجة حتماً سوف تتغير بلا شكل.

دعوني أسرد عليكم هذه القصة التي حدثت معي ، والتي تعكس أهمية أن تكون الغاية من تطبيق المعايير هي تحسين مستوى الخدمات الصحية المقدمة وليس فقط الحصول على الإعتماد والتباهي بشهادة الجودة: 

عَمِلْتُ سابقاً في إحدى المستشفيات الحكومية، في إدارة الجودة لفترة ليست بالقصيرة، حصلت المستشفى خلال تلك الفترة التي عملت بها على إعتماد كلاً من المجلس السعودي لإعتماد المنشآت الصحية (CBAHI)، وكذلك اللجنة الدولية المشتركة (JCI).

في بداية الأمر، تم إختيار المستشفى ( ضعوا خطين بالأحمر هنا) ليكون ضمن مجموعة مستشفيات للبدء في تطبيق معايير سباهي. قمنا وبالتعاون مع جميع الأقسام والإدارات في تحقيق متطلبات تلك المعايير شيئاً فشيئاً إلى أن تم حصول المستشفى على إعتماد المجلس السعودي لإعتماد المنشآت الصحية (سباهي).

كانت فرحة الجميع لا توصف بتحقيق ما كانوا يسعون إليه ( ضعوا خطين بالأحمر هنا)، وهو الحصول على الإعتماد بعد هذا العناء. حينها، قامت إدارة المستشفى بالتباهي ( ضعوا خطين بالأحمر هنا) بحصولهم على إعتماد سباهي، وعلقت صور من شهادة الإعتماد في بعض الممرات ، الأقسام الطبية، ومناطق إنتظار المرضى، رغبةً منها في أن تصل رسالتها للمراجع والمريض بأن ماتقدمه من خدمات، كانت على مستوى معايير وطنية سعودية. وبعدها تم الحصول على شهادة الإعتماد من اللجنة الدولية المشتركة (JCI)، وتم الاعلان عن ذلك بنفس الطريقة السابقة.

مرت الأيام تلو الأيام ، إلى أن أتى يوم مميز، وهو ماسوف أكتب تفاصيله والفائدة منه في الأسطر التالية، وهي أساس مقالي هذا والذي أحببت أن أشارك به أخوتي المتخصصين والمهتمين في مجال تطوير وتحسين الخدمات الصحية.

في منتصف ذلك اليوم المميز، طرق مراجع باب مكتبي استئذاناً بالدخول، فرحبت به، وبدء حديثه معي حتى وصل إلى الحديث عن تلك الشهادات المعلقة في الممرات وأقسام المستشفى ،أقصد بها شهادة إعتماد سباهي، فقال بالحرف الواحد : ” أي جودة تتكلمون عنها ” (ضعوا خطين بالأحمر هنا). غادر المراجع وترك لي عبارته هذه التي جلست ترن في إذني فترة من الزمن، والتي أوصلتها لاحقاً لمدير المستشفى والإدارة العليا. لم أقم بإيصال العبارة لمجرد إيصالها، ولكن لكي تكون كمؤشر أداء يؤخذ بعين الإعتبار.

لا أريد أن أتحدث عن حجم المستشفى الكبير من حيث عدد الأسرة، عدد التخصصات الطبية ، عدد المرضى والمراجعين ، ولا أريد أن أتحدث عن ضغط العمل والمجهودات التي يقوم بها جميع الموظفين مشكورين في مختلف تخصصاتهم، ولكن، أحببت أن أؤكد أن كلا الموظفين والمراجعين ، بما فيهم المرضى، لم يدركوا ذلك التحسن في الخدمات الصحية وتلك الجودة التي بسببها تم حصول المستشفى على تلك الاعتمادات الوطنية والدولية.

 

تعلمون لماذا؟

للإجابة على هذا السؤال بالتفصيل، نحتاج إلى مقال أو ربما مقالات أخرى نفصل بها اجابتنا. ولكن إجابتي بإختصار هي:

لأننا حرصنا على أن تكون معايير سباهي غاية وليست وسيلة.

 

دعونا نرجع للجمل التي طلبت منكم أن تضعوا تحتها خطوط حمراء:

الجملة الأولى ( تم اختيار المستشفى ):

 لم يكن قرار إدخال أو تطبيق معايير الجودة سوءا سباهي أم اللجنة الدولية المشتركة صادر من إدارة المستشفشى ، بل كان القرار من جهة أعلى صاحبة القرار. لذا، فالدراسات العلمية السابقة لاحظت أن المنظمات التي تتبنى تطبيق معايير الجودة إختيارياً، تكون أكثر استفادةً من تلك المنظمات التي تتبناه إلزامياً.

 

 

الجملة الثانية ( بتحقيق ماكانوا يسعون إليه ):

أثبتت الدراسات السابقة أن مؤشرات الأداء الصحية تتراجع في الفترة التي تلي الحصول على الإعتماد مباشرة، وهذا بسبب أن الهمم تضعف وتتراخى. وهذا دليل على أن الغاية كانت هي الحصول على شهادة الإعتماد فقط. وليس بغريب حينها أن تنتهي مرحلة الجودة عند هذا الحد.  

الجملة الثالثة ( قامت إدارة المستشفى بالتباهي ):

 لا شك بأن الحصول على الإعتمادات ليس بالشيء السهل، بل هي نتاج عمل دؤوب وجهود مستمرة طيلة دورة الإعتماد والتي تمتد إلى ثلاث سنوات في بعض جهات الإعتماد كالمجلس السعودي لإعتماد المنشآت الصحية. فعندما يتم إظهار الفرح بين العاملين والتباهي بالحصول على شهادة الجودة، فهذا حق مشروع, ولكن عنما يكون التباهي فقط بسبب الحصول على الشهادة تكمن الخطورة. فالتباهي يجب أن يكون بتحسن مؤشراء الأداء عن سابقها والتي هي بفضل تطبيق معايير مهنية كوسيلة وليست غاية.

الجملة الرابعة ( أي جودة تتكلمون عنها ):

الجملة الرابعة هذه هي مانعتبرها صوت العميل ، وهو مؤشر أداء تعمل عليه جميع المنظمات الخدمية وغير الخدمية، والتي تعكس في المنظمات الصحية مستوى الخدمة الطبية وغير الطبية المقدمة للمستفيدين منها. فالعبارة هذه تدل على أن العميل لم يدرك أي تحسن في مستوى الخدمة المقدمة. وبالتالي يجب على المنظمة في مثل هذه الحالة أن تتبنى مشاريع تحسين داخلية للعمل على تحسين هذه الصورة وهذا المؤشر.

 

ختاماً، أؤكد على أهمية تبني مثل هذه المعايير المهنية والتي هي خلاصة دراسات وأبحاث علمية صادرة من جهات علمية معتمدة ومن جمعيات تخصصية ذات كفاءة ومهنية عالية، وأن تؤخذ هذه المعايير كوسيلة لتحسين مستوى الخدمات الصحية التي تقدمها المرافق الصحية في المملكة العربية السعودية لا أن تكون غاية بحد ذاتها. فمتى ماكانت شهادات الجودة غاية، فإن رحلة الجودة سوف تقف بمجرد الحصول على الإعتماد. فالجودة هي رحلة لها بداية وليس لها نهاية.

دمتم بود.

 

 

 أ. عبدالعزيز بن راشد الصاعدي