استبشر السعوديون خيراً، بإقرار مجلس الوزراء، لرؤية السعودية 2030.  ولكنني أخشى ألا تحقق هذه الرؤية الطموحة أهدافها المأمولة، بدون الاهتمام الكافي بالصحة النفسية في السعودية، وذلك للأسباب التالية:

 

أولاً:  الأمراض النفسية شائعة جداً. فقد أكدت عدد من الدراسات العالمية، أن ما لا يقل عن ثلث أفراد المجتمع قد يصابوا بمرض نفسي في فترة ما من حياتهم. ويصل عدد هذه الأمراض بحسب التصنيفات العلمية لما يقارب الثلاثمائة مرض، وتتراوح في شدتها من أخفها كالرهاب المحدد (رهاب الطيران، المرتفعات..الخ) إلى أشدها وطأة كمرض الفصام العقلي. كما تتعدد مسببات الأمراض النفسية، وتختلف بحسب أنواعها، وغالبا ما تتضافر أسباب جينية وبيولوجية، وعوامل نفسية واجتماعية لإظهار المرض النفسي أياً كان نوعه.

 

ثانياً: تحتل الأمراض النفسية المرتبة الأولى، ضمن قائمة أشد الأمراض عبئاً وتعطيلاً لأفراد المجتمع عن الإنتاج.

فبحسب دراسة عالمية رصينة، أجريت حديثاً في 187 دولة، تحتل الأمراض النفسية وأمراض إساءة إستعمال المواد المحظورة، المرتبة الأولى ضمن قائمة الأمراض -الغير مميتة- الأكثر عبئًا وتعطيلاً لأفراد المجتمع عن الإنتاج، وذلك بنسبة 23 %. وبعبارة أخرى، فإن واحدًا من كل أربعة مرضى عاطلين عن الإنتاج في المجتمع، هو مصاب بمرض نفسي.  وقد أكدت دراسات منظمة الصحة العالمية، أنه بحلول عام 2020، سيصعد مرض الاكتئاب الحاد من المرتبة الرابعة للمرتبة الثانية، بعد مرض شرايين القلب التاجية، في قائمة أشد الأمراض فتكا بالبشرية من ناحية حجم انتشارها وإعاقتها للمصابين بها. وهناك أربعة أمراض نفسية وعصبية أخرى، بالإضافة لمرض الاكتئاب الحاد، تحتل مقعداً ضمن قائمة العشر أمراض الأولى  من ناحية حجم  مضاعفاتها المرضية، وشدة إعاقتها للمصابين بها.

وللأسف، ما زالت نسبة الميزانيات المرصودة لعلاج الأمراض النفسية وتأهيل المصابين بها، دون المستوى المطلوب في أنحاء كبيرة من العالم؛ ولذلك تخسر الولايات المتحدة الأمريكية قرابة سبعمائة مليار ريال سنوياً بسبب ضعف إنتاجية مرضى الاكتئاب. فيا ترى كم تخسر بلادنا بسبب قلة الاهتمام بتشخيص وعلاج مرض الاكتئاب وغيره من الأمراض النفسية؟!

 

ثالثاً: ومن الأسباب المهمة كذلك، أن المصابين بأمراض نفسية شديدة الوطأة، كالاضطراب ثنائي القطب واضطراب الفصام والاكتئاب الجسيم، قد يموتوا أبكر من غيرهم بعشر إلى ثلاثين سنة؛ بسبب ازدياد أمراض السكر والسمنة والضغط والكوليسترول والقلب، والسكتتات الدماغية وسرطانات الرئة..الخ لديهم مقارنة بعامة الناس. وقد أظهرت دراسة وطنية قام بها كاتب المقالة مع آخرين، أن قرابة (نصف) المراجعين للعيادات النفسية أو المنومين بالأجنحة النفسية في السعودية، مصابون باضطرابات استقلابية متعددة كالسمنة، والسكري وضغط الدم وارتفاع الدهون.

ولا تسل عن بؤس الرعاية الصحية التي يتلقونها لعلاج هذه الأمراض المزمنة المميتة! في ظل اقتصارعلاجهم على مستشفيات نفسية معزولة ذات إمكانيات ضعيفة!

 

رابعاً:  تتضاعف معدلات الإصابة بأمراض نفسية كاضطرابات الاكتئاب والقلق والهذيان لدى المصابين بأمراض جسدية مزمنة كالقلب والكلى والسكري …الخ ، أو تم تنويمهم في المستشفيات العامة لأسباب صحية مختلفة؛ ولذلك فإن الفشل في تشخيص وعلاج هذه الاضطرابات النفسية الآنفة الذكر يؤدي لمضاعفة معدلات المراضة والوفيات لدى هؤلاء المرضى بشكل عام. وكمثال لذلك، فإن اضطراب الهذيان (الفشل الدماغي الحاد) وهو أحد الاضطرابات النفسية، الشائعة الحصول في أجنحة العناية المركزة، وبعد العمليات الجراحية، يزيد من معدلات المراضة لدى المصابين به، ويطيل مدة بقائهم المكلفة في تلك الأجنحة، كما يساهم في وفاة ربع هؤلاء المرضى خلال ستة شهور من تنويمهم في العناية المركزة. وكمثال آخر، أكدت عدة دراسات مسحية عالمية أن مرض الإكتئاب الحاد يزيد من نسبة تكرار الجلطات القلبية المميتة من ضعفين إلى خمس أضعاف، وكذا الحال بالنسبة للسكتتات الدماغية۔۔الخ. ولتفسير هذا التشابك بين مرض الاكتئاب وجلطات القلب، فقد أشارت الدراسات لزيادة تخثر الدم ونسبة طلائع الالتهابات واضطراب الجهاز العصبي اللاإرادي لدى مرضى الاكتئاب؛ مما يفاقم مرض شرايين القلب التاجية. وكذلك يؤدي تضاعف معدلات الإصابة بأمراض نفسية لدى المصابين بأمراض جسدية حادة أو مزمنة، للإفراط في استهلاك الخدمات الصحية العامة (فمثلاً، يزيد اضطراب القلق من استهلاك غرف الإسعاف بالمستشفيات العامة بمعدل عشرة أضعاف)؛ وبالتالي يؤدي كل ما سبق لزيادة الكلفة الصحية الإجمالية، وخصوصاً في البلاد التي تضعف فيها خدمات الطب النفسي الجسدي التعاونية في القطاع الصحي العام، أو تنحصر خدمات الصحة النفسية في مستشفيات نفسية معزولة كما هو الحال في السعودية.

 

خامساً: ثبت علمياً، ازدياد معدلات الإدمان لدى المصابين بأمراض نفسية شديدة الوطأة، فتصل قرابة 60% لدى المصابين باضطراب ثنائي القطب، ونصف المصابين باضطراب الفصام؛ وتزداد خصوصاً عند ضعف أو انعدام الرعاية الطبية النفسية. ولذلك، لا غرابة أن ينشط تجار المخدرات في المناطق التي تضعف فيها خدمات الرعاية الطبية النفسية، أو يرفض أهلها تلقي العلاج النفسي في المصحات النفسية المعزولة، والتي تُوصم في المجتمع للأسف بأنها دار للمجانين!! ومن المعلوم للجميع، حجم التبعات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية لإدمان المخدرات على المجتمع ككل۔

 

سادساً: تزيد الأمراض النفسية من معدلات الانتحار. ولا توجد إحصائيات دقيقة عن نسبة المنتحرين في السعودية، بسبب حساسية الموضوع لدى المجتمع. وغالباً ما تبتعد الجهات المعنية عن كتابة السبب الحقيقي للوفاة المفاجئة، وتستبدل كلمة (انتحار) بكلمة (سبب غير محدد أو تسمم دوائي). لكن بحسب الإحصائيات الرسمية المتوفرة لدينا، فقد تزايدت أعداد المنتحرين سنوياً لتصل بحسب تقرير وزارة الصحة لعام 1435 لعدد 465 حالة. أما عدد محاولات الانتحارالفاشلة، فقد يصل إلى 10 آلاف حالة سنوياً، لأن الدراسات العالمية تؤكد وجود 10-20 محاولة انتحار فاشلة، مقابل كل حالة انتحار ناجحة.

وقد ربطت عدد من الدراسات العالمية، بعض الحوادث المرورية وخصوصاً الناتجة عن قيادة متهورة، برغبة الانتحار.  وليس لدينا دراسات محلية بهذا الخصوص، لكن الاستقراء العيادي يؤكد أن الرغبة في الانتحار قد تؤدي أحياناً للقيادة المتهورة، وربما بعض الحوادث المرورية (وهي القاتل الأول للشباب السعودي، حيث يموت بسببها قرابة شخص واحد كل ساعة في السعودية).

وأهم أسباب الانتحار، والذي لحسن الحظ  يمكن علاجه بفعالية، هو وجود الأمراض النفسية وخصوصاً مرض الاكتئاب. وتؤكد الدراسات أن قرابة 95% من المنتحرين أو ممن قد حاولوا الانتحار، قد تم تشخيصهم بأمراض نفسية (80% مرض الاكتئاب، و10% مرض الفصام، و5% مرض الهذيان أوالخرف، و25% من المنتحرين مدمنون للخمر كذلك). وتزيد احتمالية حدوث محاولة انتحار أخرى لدى من قد كسر الحاجز الديني والاجتماعي، وحاول الانتحارفي الماضي.

ولست متشائماً، عندما أعتقد أن نسبة الانتحار لدينا ستستمر بالارتفاع الملحوظ ؛ إذا ما استمرت أوضاع الصحة النفسية لدينا متدهورة ومهمشة ومعزولة كما هي حالياً.

 

سابعاً: بفضل الله تعالى، ثم بفضل تحسن الخدمات الصحية في السعودية، فقد ارتفع مأمول العمر عند الولادة (متوسط العمر المتوقع)، من 46 عاماً سنة 1960، إلى 76 عاماً سنة 2015. ويتوقع أن تصل ل 82 عاماً خلال بضعة عقود بإذن الله، وهذا أحد الأهداف الاستراتيجية الصحية لرؤية السعودية 2030.  وهذا يعني زيادة مطردة في أعداد حالات المصابين بأمراض مزمنة، مقعدة عن الحياة، نفسية كانت أو جسدية. في المقابل، هناك ضمور متسارع في أعداد العائلات ذات النمط الممتد، وازدياد في أعداد العائلات الصغيرة (العائلة النواة الحديثة) التي تعيش في شقق صغيرة، مع عمل الأبوين خارج المنزل. وهذا يجعل من رعايتهم للمصابين بأمراض مزمنة مقعدة أمراً شاقاً. ولذلك، يتحتم علينا استباق هذه التغيرات الديمغرافية والاجتماعية بحلول إبداعية متنوعة. وقد تحدثت عن تلك الحلول بمقالة سابقة عنوانها (من للضعفاء والمسحوقين؟).

 

بسطت عزيزي القارئ في السطور السابقة، أهم العوامل التي تؤكد أهمية الصحة النفسية كشرط جوهري لتحقيق رؤية السعودية 2030. كما أنني أسهبت الحديث في مقالة سابقة بعنوان (خدمات الصحة النفسية في السعودية ليست كافية، فما الحل إذن؟)، عن الواقع البائس الحالي لوضع الصحة النفسي لدينا، فلذلك لن أعيد الحديث عنه.

وقبل طرح الحلول المقترحة لتطوير الصحة النفسية لدينا، أريد أن أؤكد هنا؛ أنه في بلدنا ولله الحمد والمنة، تُنفق أموال طائلة على الصحة، لكن الفرق بيننا وبين الدول المتقدمة صحياً، أنهم يصرفون قرابة 15% من ميزانية الصحة على خدمات الصحة النفسية والاجتماعية؛ بينما في غالب الدول العربية، لا تتجاوز النسبة 2%. وبينما نهتم أحياناً بالديكورات الشكلية للمباني، وبشراء أحدث موديلات الأجهزة الطبية، تجدهم هناك في الدول المتقدمة يهتمون بالجوهر قبل المظهر، وربما يكتفون بجهاز ذي موديل أقدم طالما لم يختلف جوهرياً عن الطراز الأحدث؛ ويوفرون هذا المال لتوفير الخدمات الصحية النفسية الاجتماعية المتكاملة. ولعلي أشير هنا لأهم الوسائل لتحسين وضع الصحة النفسية في السعودية :

 

أولاً: على رأس هذه الحلول، دمج الرعاية النفسية في القطاع الصحي العام.  وهذا هو المعمول به عالمياً.

وقد أكدت عشرات الدراسات العالمية، أن المكان المثالي لعلاج الأمراض النفسية هو القطاع الصحي العام من عيادات أولية وأجنحة التنويم النفسية في المستشفيات العامة. وأسباب ذلك متعددة، منها أن غالبية المرضى النفسيين يفضلون تلقي العلاج في القطاع الصحي العام نظراً للوصمة المرتبطة بالمستشفيات النفسية، بالإضافة لسهولة الوصول للخدمة النفسية في القطاع الصحي العام. ولذا فالواقع يقول أن 10% فقط من المصابين بأمراض نفسية يتلقون العلاج في المستشفيات النفسية، بينما يتعذر تشخيص وعلاج الغالبية العظمى منهم (90%) إلا ضمن إطار العيادات الأولية والمستشفيات العامة.

ولذا أقترح هنا بشدة، أن يسعى قادة القطاع الصحي في السعودية، في توفير فرصة التنويم النفسي لكل مريض محتاج، في جناح صحة نفسية لا يبعد أكثر من 50 كم، على الأكثر من مكان سكنه. وبالطبع لن يتحقق ذلك، إلا بتخصيص خمسة بالمائة من أسرة كل مستشفى عام في السعودية لتكون جناحاً نفسياً مجهزاً، لتقديم خدمة التنويم (المؤقتة) لكل من أصيب بحالات الذهان والهوس والاكتئاب الحادة. الخ. وإذا وُجد جناح تنويم نفسي، فذلك مدعاة غالباً لإنشاء قسم طب نفسي متطور، يقدم خدمات تكاملية وتخصصية وتعليمية وبحثية، تخدم أقسام المستشفى العام الأخرى، والمجتمع ككل.

 

ثانياً: تقنين إنشاء المصحات النفسية المعزولة إلا ماكان منها معداً كمراكز تأهيلية للمدمنين مثلاً، أو لمرضى الطب النفسي الشرعي ، أو لعلاج وتأهيل بعض الحالات المرضية النفسية شديدة الوطأة.

 

ثالثاً: التوسع في إنشاء مراكز العلاج النهاري والتأهيل النفسي وبيوت منتصف الطريق ودور الإيواء؛ وذلك لتقديم الرعاية طويلة الأمد للمرضى النفسيين المزمنين، وتقليل ظاهرة التشرد بينهم.

 

رابعاً: تشجيع القطاع الصحي الخاص على تطوير خدماته النفسية، مع إجبار شركات التأمين الصحي على إدراج علاج الأمراض النفسية ضمن الأمراض المكفول علاجها في بوليصة التأمين العلاجية الأساسية.

 

خامساً: إصلاح الهرم الصحي المقلوب لدينا، وذلك بتوسيع قاعدة الهرم الصحي، ودعم برامج الرعاية الأولية وطب العائلة على كل المستويات؛ بما في ذلك تخصيص بعض كليات الطب لخدمة هذا الغرض، وكذلك تكثيف أعداد البرامج التدريبية المختصرة بإشراف الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، لتدريس مناهج مختصة بهذا الأمر. والهدف في النهاية، هو تخريج كفاءات طبية وطنية بأعداد كافية، لخدمة مناطق المملكة المترامية الأطراف؛ ولتكون خط الصحة الأول الذي يبدأ منه أي مريض وينتهي إليه. فمن مركز الرعاية الأولية، تبدأ الوقاية من الأمراض، وعلاج الأمراض الشائعة بما فيها الأمراض النفسية، وهو المناط به التحويل المؤقت للمريض للرعاية الصحية الثانوية والثالثية، وعنده حلقة الوصل لكافة هذه الاستشارات. وفوائد ذلك لا تحصى، فسيتم علاج الأمراض النفسية الشائعة في مراكز الرعاية الأولية عبر البرامج التكاملية الطبية النفسية بالتعاون مع الأطباء النفسيين، وكذلك ستقلّ معدلات وحِدّة الأمراض العلاجية المنشأ، كما ستقل شهور الانتظار للحصول على موعد في عيادة تخصصية. وفي المجمل، ستقل التكلفة الصحية والنفسية والاجتماعية والمادية بشكل عام.

 

سادساً: نشر ثقافة (تقديم الرعاية للمرضى النفسيين والمصابين بأمراض مزمنة بشكل عام)، بما في ذلك، تشجيع التطوع بالجهد والمال، وتوجيه أموال الأوقاف والتبرعات لهذا الأمر.

 

سابعاً: وأخيراً، فإن الحل الذي ينادي به كثير من المختصين، هو إنشاء معهد وطني أو هيئة وطنية للصحة النفسية، يكون من مهامها إجراء الدراسات المستفيضة للقضايا النفسية الملحة، وكذلك رسم الخطط، وتنسيق خدمات الصحة النفسية على مستوى المملكة. وبالطبع، مع الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال، وكذلك توصيات منظمة الصحة العالمية، والجهات ذات العلاقة.

والله من وراء القصد