كثير منا التحق بمقاعد الدراسة حاملا شغفه بين يديه ليبدأ مسيرته في طريق العلم عاقدا الآمال والأحلام على المستقبل. كم هي أمنياتنا ثمينة وكم هو هائل حجم الطموح الذي يسري في شراييننا ليغذينا ويبث في دمائنا الحماس والقدرة على الإنطلاق.
هكذا نبدأ راسمين لأنفسنا النهاية التي نرغب، لكن ما أن نمسك تلك الورقة التي تحمل عناء السنين وسهر الليالي الطوال حتى نستيقظ من أحلامنا وندرك أن الطريق لم ينته وأنه بعد الشقاء ينتظرنا شقاء أكبر وألم أقسى عندما نصطدم بواقع سوق العمل وأن الحلم الذي رسمناه والشغف الذي حملناه بين أيدينا لمجال دراستنا لم يحقق لنا ماكنا نطمح إليه وهو العطاء والإبداع والتنمية في مجال دراستنا.
قد يكون هذا حال الكثيرين من خريجي تخصص الإدراة الصحية المعطلين في ميدان الحياة عندها يكون التساؤل ماهو الخطأ؟ وأين أساس المشكلة؟ وتبدأ رحلة التقصي حتى نضع أيدينا على الأسباب ونهندس الحلول بأنفسنا، لكنها تحتاج إلى أصحاب قرار لترجمتها إلى واقع ملموس.
خدمات صحية متدنية، أخطاء طبية متكررة، مباني متهالكة، ميزانيات مهدرة وغيرها الكثير من المشكلات التي يعاني منها القطاع الصحي في المملكة. وعلى مدى سنين طوال، لاتزال تلك المشكلات تتكرر مع عزوف عن تطبيق حلول جذرية ترتقي بمستوى الخدمات الصحية لدينا، وقد يكون الحل الأولي إلى كل ذلك في تولي متخصصين إدارة زمام الرعاية الصحية والعمل بإصرار على تحسين مستوى تلك الخدمات.
وهنا تكون الحاجة إلى تخصص الإدراة الصحية طارئة وضرورية للقيام بالتحسين اللازم لتلك الخدمات، لكننا آثرنا أن نعطل المتخصصين وأن نحرم قطاع الرعاية الصحية من عطاء هؤلاء القادرين على إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.
فعلم الإدارة الصحية يتناول جميع عناصر العملية الإدراية من تخطيط وتنظيم وتوجيه ورقابة لجميع موارد الرعاية الصحية، وعندما يجتمع العلم – علم الإدارة الصحية – مع المهارة في التطبيق – فن – عندها يمكننا النظر بتفاؤل ونقول : أننا نسير في الطريق السليم نحو تحسين الخدمات الصحية.

ولايقصد بإدراة القطاع الصحي هنا تولي مناصب الإدارة العليا فقط فهذه المناصب تتطلب إلى سنوات عديدة من الخبرة والعمل المستمر في بيئة الرعاية الصحية، ولكننا نتحدث عن خريجين مؤهلين لشغل مناصبهم في الأقسام المختلفة للمستشفيات وقد حملوا آمالهم وطموحاتهم للقيام بواجبهم نحو تنمية القطاع الصحي.

فخريج الإدارة الصحية قد تلقى المعرفة العلمية والمهارات اللازمة ليكون قادرا على العمل في إدارة الموارد البشرية وأقسام الجودة والإدارة المالية وغيرها من المهام الإدارية في المستشفيات وقادر على المضي قدما عن طريق التعلم المستمر واكتساب الخبرة لتحقيق النقلة التي نتطلع إليها جميعا في القطاع الصحي لكن مالذي يعيق تحقيق ذلك؟
غالبا مايكون النظام هو المسؤول الأول والذي توجه له أصابع الاتهام عند حدوث خطأ أو خلل، فإن صلح النظام أصبح تحقيق الهدف المنشود ممكنا. وفي القطاع الصحي ليس هناك هدف أهم وأسمى من تحقيق الرعاية الصحية الجيدة للمرضى والارتقاء بالصحة العامة للمجتمع، ولايكون ذلك إلا بتحقيق أعلى مستوى من الاحترافية في إدارة النظام.
إن أهم سؤال ينبغى التنبه إليه عند الحديث عن الأنظمة هو: هل تم تحديث هذه الأنظمة لتواكب احتياجات وتطورات العصر؟ وهل تم الأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي حصلت خلال السنوات الماضية ؟
والمقصود بهذه التغيرات التعليم الصحي واحتياج سوق العمل. تخصص الإدارة الصحية من أحدث التخصصات الطبية في المملكة ويعزى استحداثه إلى حاجة المجتمع إلى خريجين متخصصين لإدارة مدخلات النظام الصحي وعملياته المختلفة لتحقيق المخرجات المرجوة، لكن ما إن ينهي الخريج تأهيله العملي والمهاري حتى يصطدم بأنظمة قديمة لم تحدث، ولم تكن الأرض ممهدة لاستقباله، ولم تشرع أبواب المنظمات الصحية لاحتضانه، إنما يرى الطبيب قد تخلى عن عمله الفني في رعاية المرضى إلى القيام بأعمال ومهام إدارية، ولاضير في ذلك في حالة النقص الشديد في المتخصصين الإداريين إن كانت هناك حاجة ملحة، ولكن مع تقييم الوضع الحالي، حيث هناك الكثير من خريجي الإدارة الصحية المؤهلين ذلك يستدعي إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح وتولي الأطباء مهامهم الفنية وهو المجال الأمثل الذي يمكن لإبداعاتهم أن ترى النور فيه، بينما تتاح الفرصة وتسلم المهام الإدارية إلى المتخصصين فيها.

لكن ماتزال المشكلة قائمة في عدم الإعلان عن احتياج لمتخصصي الإدارة الصحية في وزارة الصحة، والعامل الأساسي المسبب لذلك التهميش لخريجي التخصص هو عدم تحديث الأنظمة فمازال تخصص الإدارة الصحية لا يلقى الاهتمام المطلوب من وزارة الصحة والخدمة المدينة للاستفادة من هذه الموارد المهدرة، والتي إن تم تفعيلها بالطريقة السليمة فسوف تحقق نقلة مهمة في جودة الخدمات الصحية. فالمطلب الأساسي هنا هو تحديث الأنظمة وسد تلك الفجوة العميقة بين التخصصات العلمية الحديثة التي تقدمها جامعاتنا وسوق العمل وقصوره عن استيعاب الكفاءات من الخريجين لتحقيق التنمية .
لكن هل يقتصر دورنا على الوقوف عاجزين لحين إتاحة الفرصة؟
هناك مسؤولية كبرى تقع على عاتق متخصصي الإدارة الصحية للفت الأنظار إلى أهمية هذا التخصص ومدى كفاءة خريجيه وقدرتهم على إحداث التغيير في النظام الصحي، وذلك من خلال نشاطهم الاجتماعي والمهني في مجال الإدارة الصحية عن طريق تفعيل دور الجمعية السعودية للإدارة الصحية لتكون نقطة الانطلاق لكل متخصص في الإدارة الصحية للمساهمة في إثراء المجتمع معرفيا وبحثيا وتبادل الخبرات والتسويق الفعال للتخصص.

فخريج الإدارة الصحية على دراية بقيمة الوقت وما الانتظار مكتوف اليدين إلا هدر لما يحمله من علم ومهارة، لذلك فإن استثمار الوقت في التدريب والتعلم المستمر والمشاركة بالمساهمات العلمية الجادة المثرية للقطاع الصحي، وإن طال الوقت ستلقى الاهتمام المأمول من أصحاب القرار.

بقلم: أ.بدور حسين الصادق