تزايد الكلام في الفترة الأخيرة حول تضاعف معدل انتشار الأمراض النفسية، ونقص الخدمات الصحية النفسية في السعودية؛ ولذا أحببت مشاركة القراء الكرام ببعض المعلومات والتوصيات بهذا الشأن.

      فقد أظهرت دراسة ضخمة نشرت حديثاً في مجلة طبية رصينة (Whiteford, the lancet, 2013) ، أن معدل عبء الأمراض النفسية ازداد عالميًا بنسبة 38% في عام 2010 مقارنة بعام 1990. وكذلك أبانت هذه الدراسة العالمية التي أجريت في 187 دولة، أن الأمراض النفسية وأمراض إساءة إستعمال المواد المحظورة تحتل المرتبة الأولى ضمن قائمة الأمراض -الغير مميتة- الأكثر عبئًا وتعطيلاً لأفراد المجتمع عن الإنتاج بنسبة 23 %. وبعبارة أخرى، فإن واحدًا من كل أربعة مرضى عاطلين عن الإنتاج في المجتمع، مصاب بمرض نفسي، وأكثرها انتشاراً وتأثيراً اضطراب الاكتئاب الجسيم ويأتي بعده إضطرابات القلق.

     ومن ناحية أخرى أكدت عشرات الدراسات العالمية أن المكان المثالي لعلاج الأمراض النفسية هو القطاع الصحي العام من عيادات أولية ومستشفيات عامة. وأسباب ذلك متعددة، منها أن غالبية المرضى النفسيين يفضلون تلقي العلاج في القطاع الصحي العام نظراً للوصمة المرتبطة بالمستشفيات النفسية بالإضافة لسهولة الوصول للخدمة النفسية في القطاع الصحي العام. ولذا فالواقع يقول أن 10% فقط من المصابين بأمراض نفسية يتلقون العلاج في المستشفيات النفسية، بينما يتعذر تشخيص وعلاج الغالبية العظمى منهم (90%) إلا ضمن إطار العيادات الأولية والمستشفيات الطبية العامة. ومن الأسباب المهمة كذلك، أن المصابين بأمراض نفسية شديدة الوطأة كالاضطراب ثنائي القطب واضطراب الفصام قد يموتوا أبكر من غيرهم ب 15 سنة بسبب ازدياد أمراض السكر والسمنة والضغط والكوليسترول والقلب..الخ لديهم مقارنة بعامة الناس. وبينما تتضاعف معدلات الإصابة باضطرابات الاكتئاب والقلق والهذيان لدى المصابين بأمراض جسدية مزمنة أو تم تنويمهم في المستشفيات العامة لأسباب صحية مختلفة؛ فإن الفشل في تشخيص وعلاج هذه الاضطرابات النفسية الآنفة الذكر يؤدي لمضاعفة معدلات المراضة والوفيات لدى هؤلاء المرضى بشكل عام؛ وكذلك للإفراط في إستهلاك الخدمات الصحية العامة، وزيادة الكلفة الصحية الإجمالية.

     ماذا عن وضع الصحة النفسية في السعودية؟  هناك مسح وطني للأمراض النفسية مازال قائماً حتى الآن.  وبانتظار نتائجه، فيمكن القول أنه اعتماداً على الدراسات العالمية التي تشير إلى أن واحداً من كل ثلاثة أشخاص في العالم قد يصاب بمرض نفسي في فترة من فترات حياته سواء كان مرضاً خفيف الوطأة كرهاب الطيران أو أشدها وطأة كاضطراب الفصام؛ فيمكن أن نستنتج من ذلك أن هناك قرابة 7 مليون سعودي مصاب أو سيصاب بمرض نفسي يوماً ما. وبحسب دراسة

 (A. Al-Habeeb, 2010) ، فإنه يوجد لدينا في السعودية عيادتان أوليتان فقط من ضمن 1905 عيادة أولية تم دمج الخدمة الصحية النفسية ضمن خدماتها.  ورغم أنه يوجد لدينا قرابة 400 مستشفى حكومي وخاص في السعودية، فلا يوجد سوى بضعة مستشفيات عامة تحتوي على أقسام نفسية متكاملة بما في ذلك خدمة التنويم المؤقت للحالات النفسية الطارئة في أجنحة مجهزة لهذا الأمر. ومما يؤكد بؤس الخدمات الصحية النفسية لدينا في السعودية، أن شركات التأمين الصحي ترفض إدراج علاج الأمراض النفسية ضمن بوليصة التأمين الصحي الأساسية أسوة بعمليات التجميل والأسنان. ولا تسل عن معاناة المرضى بسبب ذلك في ظل غلاء الأدوية النفسية.

   إذن كيف نستطيع في السعودية مواجهة هذه الاحتياجات المتزايدة للرعاية النفسية ؟ هل نبني مزيداً من المستشفيات النفسية المعزولة ؟ خلاصة القول أنه مهما ازداد عدد المستشفيات النفسية ومستشفيات الإدمان في السعودية (لا تزيد حالياً عن 20 مستشفى)، فلن تستطيع أن تقدم الخدمة الكافية لعلاج قرابة 7 مليون سعودي قد يصابوا بمرض نفسي يوماً من الأيام. علاوة على أن هؤلاء المرضى كما فصلت سابقاً، يحتاجون لخدمات صحية متكاملة لعلاج الأمراض الجسدية المزمنة والخطيرة، الذين هم أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بها؛ وهذا ما يتعذر الحصول عليه في مستشفيات نفسية معزولة.

    والحل في نظري ألا نعيد اختراع العجلة من جديد، فلقد جرب غيرنا مضاعفة عدد المستشفيات النفسية قبل مائتي سنة وفشلوا فشلاً ذريعاً. والحل الذي ينادي به كثير من المختصين هو إنشاء معهد وطني أو هيئة وطنية للصحة النفسية يكون من مهامها إجراء الدراسات المستفيضة للقضايا النفسية الملحة وكذلك رسم الخطط وتنسيق خدمات الصحة النفسية على مستوى المملكة. وأقترح هنا، البدء بإجبار جميع المستشفيات العامة الكبرى والتخصصية على تخصيص 10% من أسرتها لتكون أجنحة نفسية، ودمج العيادات النفسية ضمن عيادات المستشفيات العامة ومراكز الرعاية الأولية. وكذلك أقترح تقنين إنشاء المصحات النفسية المعزولة إلا ماكان منها معداً كمراكز تأهيلية للمدمنين مثلاً أو لمرضى الطب النفسي الشرعي فقط، مع التوسع في إنشاء مراكز العلاج النهاري والتأهيل النفسي وبيوت منتصف الطريق ودورالإيواء؛ وذلك لتقديم الرعاية طويلة الأمد للمرضى النفسيين المزمنين، وتقليل ظاهرة التشرد بينهم. وأخيراً لابد من تشجيع القطاع الصحي الخاص على تطويرخدماته النفسية، مع إجبار شركات التأمين الصحي على إدراج علاج الأمراض النفسية ضمن الأمراض المكفول علاجها في بوليصة التأمين العلاجية. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

د.فهد بن دخيل العصيمي

استشاري الطب النفسي والطب النفسي الجسدي

أستاذ مساعد- كلية الطب- جامعة الملك سعود