قذف الطبيبات والمبتعثات لن ينتهي
الجودة الصحية (متابعات) ايلاف المسعودي
العبارات التي تقذف الأعراض وتتهم الطوايا، ليست كلاما فقط، بل هي فكر ورؤية. ولذلك فإن العنف ليس نتائج محسوسة في أقوال وأفعال فقط، وإنما هو عنف في تكوين الفكر
حين نتأمل في ردود الفعل على الخطيب الذي وصف، على منبر أحد المساجد، من يذهب ببناته إلى كليات الصيدلة والطب، أو إلى الابتعاث بـ”تفسُّخ الغيرة” وأنه “باع عرضُه” فإن أبرز مظاهر ردود الفعل تلك هي الغضب على الخطيب ومنه، والإشفاق على من شملهن اتهامه وعلى ذويهن.
لكن ردود الفعل الغاضبة والمشفقة بدت في طرف بارز من تجلياتها، غير مقنعة بغضبها وإشفاقها؛ فهي تتبنى المنطق الفقهي نفسه الذي يحكم تفكير الخطيب، وخطيئته – من وجهة أصحاب تلك الردود- ليست في فرض منطقه الفقهي، بل في تعبيره، أو في تصوره للواقع بما يخالفه، أو في نسيانه حاجته الشخصية إلى تطبيب قريباته… إلخ. وذلك في وجهة تسعى إلى تصحيح ما رأوا أنه توهُّم منه للواقع، وإلى الرغبة في أن يستعمل عبارات ليست صادمة أو مسيئة، وإلى الإقناع بالحاجة إلى الطب والابتعاث.
وإذا أردنا أن نسمي الأشياء بأسمائها، وأن نصف الوقائع كما تبدو، فلنَقُل إن ذلك الخطيب كان صادقاً مع قناعاته الفقهية، واعتقاداته المذهبية، وهي ليست من ابتداعه؛ فهي مقولات فقهية معروفة ومرجوحة في كتب المذاهب الفقهية لدى عديد الفقهاء. وعلى العكس من ذلك فإن ردود الفعل التي تصدر عن قناعة الخطيب الفقهية ذاتها، معترضةً عليه، تبدو موهمة بما لا تعتقده، ومؤكِّدة على منطق الخطيب من حيث أرادت الاعتراض عليه.
ولهذا ينبغي أن نحرِّر القضية موضوع النزاع مع الخطيب، وهي مسألة وجود الرجال والنساء في مكان واحد للعمل أو الدراسة أو التسوق، وهو ما يصطلح عليه بـ”الاختلاط”. فالحديث عن الاختلاط مسألة، والحديث عن الحشمة والأدب “الواجبين” على الرجال والنساء مسألة ثانية، والحديث عن “الخلوة” أي الوجود “المحظور” لرجل وامرأة لوحدهما مسألة ثالثة.
لم يكن حديث الخطيب عن المسألتين الأخيرتين، بل عن المسألة الأولى، وهو ما يحدث للطالبات في الأقسام الصحية أو خارج المملكة، و –استتباعاً- للنساء في عملهن في المستشفيات والأسواق. وهو واقع النساء والرجال في المجتمعات الإسلامية خارج المملكة، وفي مجتمعات العالم جميعاً.
ولا يرى عديد الفقهاء، قديماً وحديثاً، من مختلف المذاهب الفقهية في ذلك بأساً؛ فهذا –فيما يستدلون- ما كان عليه مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، بل ما كان عليه المجتمع السعودي بما فيه القرية الجنوبية التي ينتمي إليها ذلك الخطيب، قبل تسيُّد ما سمِّي بـ”الصحوة”. ولهذا فإن هجوم الخطيب على هذا الواقع يثير مسائل منهجية وأخلاقية وفكرية مختلفة، نشير إلى أبرزها فيما يلي:
1. مصادمة الخطيب لقواعد الاختلاف الفقهي، ونسفها جملة واحدة. فالرأي المقرر لدى جملة الفقهاء، أنه “لا إنكار في مسائل الخلاف” والإمام أحمد –رحمه الله- فيما رواه ابن مفلح في “الآداب الشرعية” يقول: “لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب، ولا يشدد عليهم”. وهذه مسألة منهجية يتعلق بها وجود الخطاب الفقهي بكامله؛ فلولا الاختلاف بين الفقهاء وبين البيئات الفقهية زماناً ومكاناً، لما تطور الفقه، ولما تكاثرت مؤلفاته.
2. لم يقف الخطيب عند بيان حكم فقهي من وجهته، بل مضى إلى تقويم أخلاقي لمن لم يلتزم به، وضمني للفقهاء الذين خالفهم. ولا يقتصر ذلك على طالبات الطب والمبتعثات السعوديات وهن موضوع حديثه، بل يجاوزهن إلى النساء المسلمات في البلدان الإسلامية، وفي فترات التاريخ المختلفة، وإلى العفيفات الكريمات من النساء في العالم أجمع. فيصبح “تفسُّخ الغيرة” و”بيع العرض” و”الإجرام” وغير ذلك من القذف والطعن في الأخلاق والضمائر اللذين وردا في كلامه، موزَّعين عليهن جميعاً.
3. التلازم بين العنف والأحادية الفكرية؛ فالألفاظ التي تطعن في أخلاق المخالف وشرفه، والعبارات التي تقذف الأعراض وتتهم الطوايا، ليست كلاماً فقط، بل فكر ورؤية. ولذلك فإن العنف ليس نتائج محسوسة في أقوال وأفعال فقط، وإنما هو عنف في تكوين الفكر وفي التأسيس للرؤية. إنه عنف مبدئي، ولن تكون الرؤية الأحادية عند الواعظ وعند غيره إلا منبتاً للعنف، ومصدراً للمصادمة مع الآخر.
4. حَصْرُ الرؤية إلى المرأة في الجسد، واختصارها في الجنس، وتجريدها من المسؤولية والعقل والإنسانية؛ فلم يكن الحديث في الخطبة موجَّهاً إلى النساء بل إلى أوليائهن الذكور. وهو حديث أساء إليهن نفسيا واجتماعيا، ولكنه كان أكثر إساءة إلى المرأة؛ لأن إساءته نحوها كانت عنصرية. وبالطبع ليس بوسع هذه الرؤية أن تتعقل الواقع، وأن ترى عبقرية طبيبة أو تفوق طالبة، أو ترى شيئاً مما تنجزه المرأة يسجَّل للعقل وللجهد الإنساني.
5. لم يكن الخطيب مفرداً بحال، ولو كان كذلك لما عنَّى أحد نفسه بتصويره ونشره، ولما تناقله أحد، ومن ثم لما احتاج أحد إلى الغضب والرد. الخطيب هنا عنوان خطاب، وكل خطاب دلالة سلطة، والسلطة لا تنحصر في مفرد ولا تلتئم في شخص معزول. وإذا كان هناك من جاوز –على مستوى النظرية- المؤلف (أو المتكلم) إلى القارئ (السامع) بوصفه متضمَّناً في الخطاب، فإن هناك من أضاف الناشر. وهذا يعني أن معاقبة الخطيب وإيقافه لا تكفي لعلاج هذه الإساءة؛ فهي مشكلة خطاب اجتماعي برمَّته.
هذه الملامح الخمسة التي تصف الوجهة المنهجية والفكرية والأخلاقية للخطبة، وما يترتب عليها من دلالات إشكالية على الخطاب الاجتماعي السعودي والديني الإسلامي، تجتمع على نفي انحصار مشكلة الاختلاف مع الخطبة في التعبير والمنطق اللفظي، وإنما في مبدئية خطابها الأحادي الذي يحتكر الحق، ويرى فرضه على الجميع، ويلغي عقل المرأة وإنسانيتها، ويمارس العنف فكراً ومنطقاً، ويعمِّم إساءته ونعوته الإقصائية على الزمان والمكان. والخطبة لذلك كله ليست مشكلة الخطيب منفرداً بل مشكلة خطاب يندرج فيه الخطيب، ولا يندرج في الخطيب أو ينحصر فيه.
وعلينا – ما دام الأمر كذلك- ألا نتوقع أن يكون هذا الخطيب آخر من يقذف العاملين في القطاع الصحي رجالاً ونساءً في أعراضهم، ولا آخر من يقذف المبتعثات وأهلهن في عفافهن. كما علينا ألا ننسى أنه لم يكن أول من اقترف هذا الجرم، فقد سبقه من وَصَف العاملين في القطاع الصحي “بممارسة التحرش بنسبة 100%” وقذَفَ آباء المبتعثات الذين لا يرافقونهن بـ”الدياثة”، وقال إن حصة الرياضة في تعليم البنات ستنتهي بالبنات إلى “الدعارة”، وجعل البنات “هماً وعاراً”… الخ.
لقد أحاطت بالمرأة في مجتمعنا، بفعل تخرصات وأوهام من هذا القبيل، وجهة في الثقافة والممارسة تنتقصها وتتهمها وتطعن في مسؤوليتها وتفرض عليها الوصاية، وتنسب ذلك إلى الدين لا إلى أفهام البشر القاصرة عن مقاصد الدين. والنتيجة لا تقتصر على المرأة، فهي نصف المجتمع وشطر الكينونة الإنسانية، ولابد أن يتعدى ما يمسُّها إلى الرجل في صميم إنسانيته ومعقوليته، وإلى المجتمع في شتَّى مناشطه وعلاقاته وتجلياته.