مما لاشك فيه أن جودة تقديم الرعاية الصحية تقاس بشكل رئيسي على مقدار ما توفره المنشاة الصحية من بيئة آمنة للمرضى  (safety culture) ويمكن تعريف هذه البيئة بأنها مجموع القيم والمفاهيم والتصرفات التي تؤدي إلى تطبيق مبدأ سلامة المرضى سواء على مستوى الفرد أو الجماعة في المنظومة الصحية

في أحد التقارير الصادرة من الهيئة الطبية الأمريكية ( IOM ) ، وجد أن ما بين أربعة وأربعون ألفاً إلى ثمانية وتسعين ألفاً من مرضى الولايات المتحدة الأمريكية يموتون سنوياً بسبب الأخطاء الطبية التي كان بالإمكان تجنبها ، ومن الملفت للنظر أن هذا الرقم الهائل يعتبر أكثر من ضحايا حوادث السيارات لديهم ! ، كما أوضحت أحد الدراسات الحديثة في المملكة المتحدة أن ما نسبته عشرة بالمئة من المرضى المنومين في مستشفيات بريطانيا يتعرضون لأخطاء تتعلق  بسلامتهم، ومن المؤسف القول بأن نصف تلك الحوادث أو الأخطاء كان من الممكن اجتنابها أيضاً ! وهذه كلها شواهد على أن تقديم الرعاية الصحية ليس بمعزل دائماً عن حدوث بعض المخاطر للمرضى، وبطبيعة الحال فإن عواقب مثل تلك الأخطاء لا يقف فقط على الضرر الجسدي أو المعنوي الذي تعرض له المريض بل يمتد إلى استهلاك كبير في الميزانيات إضافة للخسارة المتمثلة في تناقص إنتاجية المرضى وحاجتهم للرعاية المستمرة

ومن هذا المنطلق تبرز الحاجة الماسة لإحداث تغيير استراتيجي جذري وذلك بتطبيق أسس ومعايير الجودة في الرعاية الصحية والتي تضمن بإذن الله توفير بيئة آمنة للمرضى كما أسلفت. وقد أوردت الكثير من الدراسات في هذا المجال بعضاً من التحديات التي ينبغي أخذها بالاعتبار حتى نتمكن من الوصول لذلك الهدف المنشود وسوف استعرض في هذا المقال خمسة من هذه التحديات كالتالي

أولاً : بناء قيادة فعالة في المؤسسات الصحية ( Effective leadership) تحمل على عاتقها مهمة تعزيز مفهوم الجودة وسلامة المرضى على جميع المستويات. فقد أثبتت الدراسات أن القيادة تعتبر حجر الأساس في تكوين بيئة آمنة للمرضى وترتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى جودة الخدمة المقدمة في المنشأة الصحية

ثانياً : أن يتم النظر للأخطاء الطبية على أنها حصلت كنتيجة لخلل في النظام ككل (   System failure )   وليست كنتيجة مباشرة لخطأ بشري فردي ، فقد أوضحت العديد من الدراسات أنه على الرغم من صدور معظم الأخطاء الطبية من أفراد عاملين في المنشأة الصحية إلا أن لوم العامل ومعاقبته ليست حلاً جذرياً وستستمر نفس الأخطاء في الحدوث، وقد وجد أن معظم تلك الأخطاء تنتج في الواقع  بسبب خلل او فشل في تتابع العمليات ( Processes) والمتكونة من عوامل كثيرة على المستوى التنظيمي والإشرافي والإداري للمنشأة ، ولعل الشكل التوضيحي التالي يوضح هذه الفكرة

d

في الشكل السابق ، يتم تمثيل الخلل في العمليات على شكل ثقوب متتابعة في مايسمى بنموذج ( الجبنة السويسرية ) وبالتالي فإن الخطأ الناتج من مقدم الخدمة الطبية ( طبيب ، ممرض ، صيدلي … إلخ ) ماهو إلا عبارة عن ثقب ( خلل ) من مجموعة ثقوب أدت في نهاية المطاف إلى حدوث الخطأ الطبي وعليه ، فإن محاولة إغلاق تلك الثقوب وتقليصها بحد الإمكان كفيل بإذن الله للارتقاء بمستوى الجودة وسلامة المرضى وهذا بالطبع يستلزم تظافر جهود جميع العاملين في المنظومة الصحية دون استثناء

ثالثاً : وضع نظام للتبليغ عن حدوث الأخطاء ( Reporting system ) يكون هدفه التعلم والاستفادة من الأخطاء لضمان عدم تكرارها بين موظفي القطاع الصحي وأن لا يكون الهدف الأساسي منه اللوم أو المحاسبة للأفراد وهذا يتطلب تفعيل آلية سهلة وواضحة للتبليغ عند حدوث الأخطاء (Incident reporting)  والتشجيع على ذلك من قبل القيادات العليا في المنشأة الطبية.

رابعاً : العمل بروح الفريق الواحد ( Effective teamwork ) ، فكما هو معلوم أن سلسلة العمليات والإجراءات التي تتم داخل المنشآت الصحية كثيرة ومعقدة وتستلزم قطعاً تعاون الجميع بالعمل كفريق واحد هدفه الأول تقديم خدمة طبية ذات جودة عالية وتوفير بيئة آمنة للمرضى وهذا لا يتحقق بالعمل الفردي مهما كانت الخبرات والشهادات لدى حاملها

خامساً : تعزيز وتحفيز الاتصال الفعال ( Effective communication ) بين جميع مستويات المنظومة الصحية ، حيث أثبتت الكثير من الدراسات أن ضعف التواصل بين أفراد النظام الصحي بعضهم البعض أو بين المريض ومقدمي الخدمة الطبية يلعب دوراً هاماً في حدوث الأخطاء الطبية بجميع أنواعها  وهناك العديد من الأمثلة والتطبيقات في مجال الجودة والتي توضح أهمية التواصل الفعال بين أفراد المنشأة الصحية

ختاماً ، هذه التحديات المذكورة تعتبر جزءاً لا يتجزأ من تحديات أخرى تواجه مقدمي الخدمات الصحية في جميع أنحاء العالم وهي في الحقيقة ليست من السهولة بمكان وتحتاج متسعاً من الوقت والجهد لتغيير السلوكيات واستيعاب تطبيقات الجودة وسلامة المرضى من قبل جميع أفراد الهرم الوظيفي الصحي من رأسه لقاعدته

 

بحث و إعداد : د- عبدالعزيز بن سالم القرزعي

طبيب استشاري – الزمالة السعودية والعربية في طب الأسرة والمجتمع

دبلوم متخصص في إدارة الجودة وسلامة المرضى – الهيئة المشتركة الأمريكية (( JCI

ماجستير إدارة استراتيجيات الصحة والقيادة – بريطانيا

 

د.عبدالعزيز القرزعي