في يوم عمل روتيني … كان الوقت يمر بشيئ من الرتابة والهدوء …
المشهد يسوده قلة من المراجعين والمرضى المتناثرين هنا وهنـاك..
كان الجو الداخلي للمستشفى بارداً جداً… تماما كـ برودة ذلك الروتين اليومي .. لاجديد
حتى لمحت ذلك الرجل الأكهل العجوز ممسكاً بورقة بيضاء في يده
ويتجول بحيرة في الممرات .. وعيناه تلـف الأرجاء ويتمتم بشيء من نفاذ الصبر بحثاً عن شيء ما
لاأعلم مادفعني للأقتراب منه .. لعله فضولي لاأكثر
سألته : مابــك ياعم؟؟
قال لي وهو لم يلتفت .. وعينه لازالت تتجول وتتنقل بسرعة بين اللوحات التعريفية المعلقة في الممرات:
أيعقل لرجل عجوز شارف على الموت أن يدور بحيرة هنا وهناك؟ أنا لا اتحمل تلك المشقة .. كم بقى على عمري؟ وأي جسد أملكه يحتمل ويقدر على التجول ؟!
ابتسمت له .. ومددت يدي للورقة التي كان يمسكها بقوة .. التي كادت أن تتقطع … وقلت له : هل لي أن أخدمك؟
إلتف إلي أخيراً بشيء من الأهتمام والرضوخ والإستسلام قائلاً : نعم … أرجوك يا ابنتي
انتابني حينها شعور غريب .. رجل في هذا العمر يرجو أن أقدم له خدمة؟ وأي خدمة يريد؟…
خدمة من أبسط ماتكون (في نظري) ومنهكة جداً (في نظره ) ،،
قلت له : نحن جميعاً في خدمتك .. تفضل بالجلوس وانتظرني هـنا بينما انتهي من خدمتك
مشيت ومعي الورقه، ذهـبت بها إلى عدة أقسام مختلفة ومتفرقة عن بعضها البعض … حتى انتهيت وعدت له من جديد …
رأيته يجلس في نفس المكان … ومبتسم … وعيناه تتجول في المكان … تراقب المارة بأستكنان…
تقدمت له … وأعطيته الورقة بإبتسامه .. سبقني بسؤاله وهو يقف مبتسماً: هل انتهيتي يا ابنتي؟

قلت له: بكل سرور … تفضل هذه أوراقك … أية خدمات آخرى ياعم ؟ فنحن هنا من أجلكم ..
قال بنوع من الدعابه : اية خدمات اخرى ارغب بها وانتي انتهيتي منها جميعاً , لستي مجبوره ياابنتي على خدمتي
لقد رأيت تلك النظره في عينيه ..لعلي اسميها نظره العجز؟ أين نحن من هؤلاء؟
أي شرف يكسبه الانسان حينما يسعد ويقدم الخير لغيره؟
لاسيما مريض قادته الحاجة والأوجاع ..؟
كما قيل :
” إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا “

لقد تجلى اهتمام ديننا السامي وتركيزه على الأخلاق الفاضلة والتحلي بها، يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

عندما نتحدث عن الأخلاق، سأتحدث عنها في المجال الصحي، كشيء من التخصيص،
سأتحدث عن تعاملاتنا كـممارسين صحيين داخل أروقة المستشفيات والمرافق الصحية الأخرى,
سأتحدث عن مريض هنا وهناك .. مقعد .. يصارع الألم
سأتحدث عن أم ترافق أبنها المريض .. لاحول لها ولاقوة
سأتحدث عن مريض غريب .. ليس له قريب
سأتحدث عن مريض أنهكه المرض … خسر كل شيء بسببه .. لايرى جمال هذا الكون بل يرى ظلمته …

نعم …. نحن نؤدي واجبنا على أكمل وجه كــ ممارسات عملية .. ولكن ماذا عن الممارسات النفسية ؟
أوليست هي أولى .. وأحق … وأعمق ؟
هنا … أتكلم عن قناعة كبيرة في نفسي بأن الاخلاق الفاضلة والواجب والنظام ..
هما خطان متوازيان لاينفصلان مهما يكن …
وأؤكد على أن حسن الخلق ليست مجرد إبتسامه وحيله نحتال بها على متلقي الخدمة …. قطعاً يجب أن تكون غاية وسلوك ممنهج نسمو به …
لما كانت بهذه الأهميه؟
المريض .. أحوج مايكون نفسياَ وجسدياَ ألى مقدم رعاية يسمو بتعامله اللين نحو ذروته الانسانية واللطف، أعتقد بأن قمة راحة وسعادة المريض تتمحور في مقدم رعاية يتفهم احتياجاته النفسية قبل الجسدية .. هنا أتكلم من منطلق أن للإرتياح النفسي والجسدي علاقة طردية يجب أن نحافظ على ديمومتها لدى المريض….

المستشفيات … حالها كـ حال أي منشأة أخرى يحكمها مبدأين إثنين:
المبدأ الأول ، وهو الأساسي، : النظامي والقانوني
المبدأ الثاني وهو الفرعي للأسف : الإنساني والسلوكي( أي المبادئ والمثل العليا)

ماذا لو تقلدنـا المبدأ الثاني وتبنيناه كـ أسلوب حياة … لاواجب ديني أو وظيفي ..
بالتأكيد سيخفف من وطأة عملنا الدؤوب … وجل اجتهادنـا في تحقيق عدالة المبدأ الاول..

سئل النبي عليه السلام عن أكثر مايدخل الناس الجنة فقال: ” تقوى الله … وحسن الخلق” .

أخي الممارس الصحي .. بادر المريض بالسلام … وجل الاهتمام.. أعرض له خدماتك .. لاتدع له فرصة للحيرة … إسمع له بإنصات … ساعده … وجهه … كن ليناً في تعاملك .. راقياً في عباراتك .. تحمله ..
كن على يقين بأن المريض سيكون يوما ما أباك .. أمك .. أختك .. أخاك .. ولعله سيكون انت..!

لأننا بالعطاء نسمو .. ولأن مانعطيه للاخرين، سيعطيه الله لنـا في حصاد أيامنا القادمة…
وأخيراً … مرحى لمن يحقق هذا التوازن والفن السهل الممتنع فيما هو بين النظام والقانون .. وبين الانسانية السامية…

 

 

بقلم. سجى بنت علي آل رحمة
مستشفى رأس تنورة العام
مهتمة بالجودة الصحية والتميز المؤسسي