نداء من القلب لكل طبيب نفسي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

اسمح لي قارئي الكريم أن ألبس في مقالتي هذه ثوب الواعظ -وإن لم أكن جديراً به- استغلالاً لنفحات هذا الشهر الكريم حيث تسمو النفوس وتصفو القلوب. فأهتبل هذه الفرصة، لأوجه نداء من القلب لنفسي أولاً ثم لمن يصله مقالي هذا من الأطباء النفسيين، مع كامل الود والاحترام والتقدير والدعاء لهم بالحياة الطيبة في هذه الدنيا، وجنة الفردوس في الآخرة.

فلا يخفى على شريف علمكم أن الطبيب النفسي، وكل من له علاقة بعلاج المصابين بأمراض نفسية، من أطباء في مختلف التخصصات وأخصائيين نفسيين واجتماعيين، كل هؤلاء قد نالوا شرفاً كبيراً بأن مكنهم الله من تقديم الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية لهؤلاء المرضى. وهؤلاء المرضى، وإن أتوا من جميع طبقات المجتمع، فإنهم في لحظة المرض النفسي ونتيجة لمضاعفاته السلبية، قد أصبحوا في حالة ضعف وانكسار لا يعلم مداها إلا الله. ولذلك قد يخفى على بعضهم، ما له من حقوق على معالجه الإكلينيكي، ولا يعدّ غضبه أو رضاه معياراً دقيقاً على نيله لحقوقه الصحية. وإنما المرجع في ذلك بلا شك، هو تطبيق المعايير العالمية والدلائل الإرشادية لتشخيص وعلاج الأمراض النفسية، والتي وضعت خطوطها الجمعيات العلمية العالمية المتخصصة بهذا الشأن؛ اعتماداً على آلاف الدراسات، وتطبيقاً لمنهج الطب المبني على البراهين.

ولهذا السبب، فإنني أحذر نفسي أولاً وإخوتي من التفريط في حقوق مرضانا.  فمن المعلوم أن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، بينما حقوق العباد مبنية على المشاحة. قال النبي- صلى الله عليه وسلم- : “من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء ، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات ، أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه”. و قال صلى الله عليه وسلم- : ” الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة : ديوان لا يعبأ الله به شيئا ، وديوان لا يترك الله منه شيئا ، وديوان لا يغفره الله ، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله ، قال الله عز وجل (( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ))، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا ، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه ، من صوم يوم تركه أو صلاة تركها ، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ، ويتجاوز إن شاء ، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا ، فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة”.

 وقد فصلت حقوق المرضى في مقالة سابقة بعنوان (اعرف حقك! ما هي حقوق المريض في العيادة النفسية؟)، وهي معلومة بالتفصيل من كل طبيب نفسي. ولكن سأركز على واحد من أبرز الأخطاء الشائعة لظلم المرضى النفسيين، وهو عدم قضاء وقت كاف مع المريض وخصوصاً في الزيارة الأولى؛ وهي الزيارة الأهم للتشخيص الدقيق ورسم الخطة العلاجية. وهذا الأمر، يشبه فعل طبيب جراح، اكتفى بشق موضع العملية دون استئصال موضع الداء ولا خياطة للجرح بعدها، متذرعاً بقصر الوقت!!!. وقد اتفقت التوصيات العالمية على أن مدة الزيارة الأولى للطبيب النفسي هي ٤٥ دقيقة، ولا يُقبل بحال من الأحوال أن تقل عن نصف ساعة، مهما بلغ الطبيب علماً وخبرة. أما لو كان المريض طفلاً، فمدتها عادة ساعة ونصف، ولا تقل بحال عن ساعة كاملة. طبعاً، لكل قاعدة شواذ، فيستثنى من ذلك بعض حالات الطوارئ والعناية المركزة..الخ، وأحياناً يحتاج الطبيب لعدة زيارات، للوصول للتشخيص الدقيق.

والأدهى والأمرّ أن (بعض) ملاك المراكز الطبية النفسية الخاصة قد قننوا بعض الممارسات الخاطئة في قطاع الطب النفسي الخاص. وبعبارة أخرى، بدلاً من أن يكون ذلك خطأ عابراً، أصبح ظلماً متكرراً يصيب كل زائر لبعض تلك المراكز. ومن هذه الممارسات ما يلي:

-السماح بربع ساعة بل أقل للزيارة الأولى للطبيب النفسي، وتنظيم حجز المواعيد تبعاً لذلك.

-تمكين غير المؤهلين من تقييم وعلاج المرضى. ومن ذلك، استخدام بعض أنواع العلاج النفسي إما غير المثبتة علمياً على الإطلاق أو المثبتة علمياً ولكن تُقدم بطريقة خاطئة، ومن غير المؤهلين.

– تضارب المصالح مع شركات الأدوية والصناعة الطبية، مما يؤدي للصرف المفرط، والغير مبرر إكلينيكياً، لأصناف الأدوية، وخصوصاً الأدوية الجديدة ذات الأسعار الباهظة. وكذلك استعمال أجهزة تحفيز دماغي لم تثبت فعاليتها، أو بأسعار مبالغ بها.

– إقامة دورات بعناوين خادعة للترويج للمركز.

أما حل المشكلة، فأقترح ما يلي:

١- الحل الأمثل هو التحول لمنظمات غير ربحية. وذلك بأن يأخذ كل من يقوم بدور إداري أو إكلينيكي، حقه المادي وافياً، وما زاد لا يذهب لجيوب ملاك المركز الخاص، وإنما يصرف لتطوير الخدمات، والأبحاث، وتخفيض أسعار الخدمات للمحتاجين من المرضى.

٢- وجود مجلس أمناء/ أخلاقي، مستقل، تطوعي يقوّم عمل المركز ومنتجاته أولاً بأول.

٣- إقامة جمعية خيرية لحقوق المرضى النفسيين، تسعى لنيل المرضى لحقوقهم، وتتلقى شكاوى المرضى، وتتواصل مع الجهات ذات العلاقة.

وأخيراً، أقول هنيئاً لمن بذل وسعه واستفرغ جهده، مستعيناً بالله، في خدمة هؤلاء المرضى؛ وهؤلاء يشكلون الفئة الغالبة من الأطباء النفسيين، ولله الحمد. وما أسعدهم بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم “إن من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن, وأن يفرِّج عنه غمًا..”. وقوله ” من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ماكان العبد في عون أخيه”.

 

والله من وراء القصد

فهد بن دخيل العصيمي

استشاري الطب النفسي والطب النفسي الجسدي

أستاذ مشارك- كلية الطب- جامعة الملك سعود

    19/9/1436