منذ اللحظات الأولى أوكل لي مدير المجمّع (الأستاذ عادل) بعض أعمال توثيق الجودة للمجمع الطبي، و كبداية شرح لي أهم الإجراءات التي يقومون بها من بعد استلام الوافدين من مخالفي أنظمة الإقامة إلى أن يتم ترحيلهم.. وهؤلاء النزلاء هم ممن تأخروا في اصدار تصاريح إقامة سارية المفعول، أو انتهت عقود عملهم الرسمية، وبالتالي هم ممنوعون من البقاء في المملكة. أي أن المجمع يقوم بتقديم الرعاية الصحية والوقائية لهؤلاء النزلاء إلى أن يحين الوقت المحدد لمغادرتهم.

 نقل لي طاقة إيجابية بحديثه عن التغييرات التي حصلت في المجمع آخر خمس سنوات وعن التقدم الملموس في خدماته.. فشحذت همتي لأن تكون بداية جديدة، كم أعتز بتوثيق أعمال أبطال الصحة المشاركين دائماً في التطوير التنظيمي لإحداث التكامل بين اهداف المنظمة واهدافهم الفردية.. فما بالكم بالمشاركين في خدمة الوطن وفي مرابطة ‏عام ١٤٤٣هـ، تلك التي ترسم خدمة الوطن للحجيج وفي أبهى حلة بعد انقضاء جائحة كورونا.. كم اعتز بتوثيق أعمال تلك النفوس العظيمة…! 

  

 تحدّث الأستاذ عادل بفخر عن العيادات التخصصية التي استحدثوها وعن دورهم الكبير أثناء الجائحة.. والأعداد الهائلة التي تم عمل مسحات لهم.. بالفعل كان مجهوداً هائلاً في ظلّ هذه العزلة التي رأيتها.. سألته: من المتكفل بعلاج هؤلاء…؟  فقال: تتولَّى الدولة مسؤولية توفير الرعاية الصحية للنزلاء… وينبغي أن يحصل جميع النزلاء على نفس مستوى الرعاية الصحية المتاح في المجتمع، وينبغي أن يكون لهم الحقُّ في الحصول على الخدمات الصحية الضرورية مجَّاناً ودون تمييز على أساس وضعهم القانوني.. أمَّا النزلاء الذين تتطلَّب حالاتهم عنايةً متخصصة أو جراحة فينقلون إلى مستشفيات حكومية كبيرة…

استأذنته وانطلقت في جولتي..

كان يوماً طويلاً.. أخيراً انها الساعة السادسة مساءً..

أعدت الاختصاصية آسيا طاولة الإفطار.. معظم الموظفات صائمات فنحن في العشر المباركات..

 وهاهي تستعد بترتيب القهوة والتمر..  بقي على الاذان نصف ساعة..  هاتف اسيا يرن…!

تلقت المكالمة وبدأت تتجهز لمغادرة غرفة الاستراحة؟؟

الجميع سألها: إلى أين؟ لم يتبقَ شيء على الأذان.. وانتِ صائمة.؟

قالت: أبلغني المدير بوصول دفعة نزلاء جدد…!

هنا وقفت ثلاث فتيات من المجموعة.. وبلا تردد وبصوت واحد..

نحن معك يا اسيا.. سنساعدك في انهاء استقبال النزلاء ونعود لاستكمال افطارنا معاً…!!

       

 تعجبت وتساءلت عن دافع الانتماء القوي الذي زرع في نفوسهم.. فالأفراد ذوو دافع الانتماء العالي يتمسكون بالعلاقات الإنسانية والانتماء للجماعة ويحبون الأداء داخل الجماعة ولذا يكون دافع الانتماء معززا للعمل التعاوني بدرجة كبيرة. ما السر الموجود في هذا المجمع…؟

من يعمل على تشجيعهم بهذه الطريقة؟ من يعمل على تعزيز الاخلاقيات واحترام القانون، بل والامتثال مهنياً للمعايير الدولية لحقوق الانسان…!

انتهى يومي الأول..

محاولة نوم فاشلة..

لا هروب من الاقدار..

تتواتر أصواتهم على مسمعي..

وجوههم لا تفارقني..

وكأنها تطاردني بلا توقف..

لماذا هم تحديدا ً…؟

لماذا الآن…؟

ما هذه الحركة الصاخبة.. الجميع يتجهز…! يستعد..

ممرضين.. أطباء.. باب الطوارئ يفتح.. سمعت صوتاً من بعيد..

نزلاء جدد على وصول …!

حارس الأمن يقف متيقظاً على الباب،

المدير المناوب بجهازه اللاسلكي يأمر الأطباء بالتواجد سريعا في عياداتهم.

الجميع منشغلون في اتخاذ إجراءات‏ الاستقبال وقياس العلامات الحيوية والفحوصات ‏اللازمة..

وجه ميار الممرضة الصغيرة المبتسمة في آفاق حلمي..

 إنها تطبطب على طفل ‏يبكي حافي القدمين ماسحةً لدمعه، تضمد جراحاً في مقدمة قدميه..

ممرضة أخرى …! من هذه…؟ انها الأخصائية آسيا..

تحمل طفلاً آخر من يدي العسكري بسرعة وبدأت في تنظيف وجهه بالماء،

افقت من غفوتي.. لعله خير..

أين أنا…؟

طيف روح هائمة يحدّثني..

هنا حيث عدالتنا السامية.. حيث إنسانيتنا طغت على كل شيء..

إنه الجهد الجماعي الأكثر جمالاً..

الكل يعمل هنا لتخفيف المعاناة وجلب الأمل…!

أنت هنا حيث لا أهمية لاختلاف الألوان ولا الأعراق ولا الجنسيات.. فالكل سواسية.

ألهمني الصوت العميق.. وطمأنني اللباس الأبيض الملائكي..

آه ياله من منام…!

استيقظت..

 لاح أفق المجمع الطبي حيث أعمل،

متأثرة بما شهدته في يومي الاول..

تراودني الاحلام..  

ليتني أستطيع تقديم كل الدعم الذي يحتاجونه..

وما أكثر احتياجاتهم المالية والمادية والتدريبية والإدارية في ظل وجودهم في تلك العزلة……!

فهم ابطال في منتصف صحراء منعزلين.. يقدمون تضحيات غير مشروطة.

 تعلقت روحي بهم وانطلقت حرةً في الفضاء ترسم عطاءهم..

سطوري أدوّنها لأسجل حدثاً راسخاً في ذاكرتي ويضفي عليها روحاً..

كان يــــوماً بــلا جــــودة!

 ولن يساعدني أي شيء على تأطير الحقائق المعرفية إلا أن أسردها كما رأيت..

فتجربتي هناك كانت تشع أملاً.. فلها معنى حقيقياً..

تصفحت أوراقي.. ‏ كان يومي معهم بلا جودة حقاً..

 أين قلمي…؟

ما الدوافع التي تحرك كل تلك الطاقات والسلوكيات…؟

لابد من كوب قهوة هنا…!

انها الثانية صباحاً..

تصفحت الورق الذي استطعت أن أجمعه…!! ‏توقف عقلي معترضاً..

 فلا مصطلحات ولا مفردات للجودة.. أين مستندات التوثيق…؟؟ أين الاهداف…؟؟

أين المؤشرات التشغيلية…؟؟ أين العمليات …؟؟

أين معايير الأداء…؟؟ أين الرقابة…؟؟ أين التغذية الراجعة…؟؟ أين مشاريع التحسين…؟؟ أين التدريب…؟

 لا وجود لتلك الملفات..  

وسرقني النوم أخيراً..

     كنت أقف في منتصف العيادات.. ووجدت طبيبة ‏تُقدم الرعاية لإحدى النزيلات المريضات، ولاحقت عيني ممرضة تعتني بالأطفال.. ما كل هذا التعاطف وما سبب هذا الشغف والعطاء في ظل قسوة المكان…؟

التفت فوجدت طبيباً مهتماً لاستيعاب حالة أحد النزلاء وبدأ في الكشف عليه ثم شرع في التشخيص ووصف العلاج اللازم واعجبني ذلك الممرض الذي يترجم لغة النزيل بسلاسة للطبيب ليتمكن من خدمته سريعا..

يتبع في الجزء الثاني ..