انبهار.. تلك هي حالتي…!

        نعم لا املك سوى الإنبهار والإعجاب بتلك الشخصية القيادية التي شهدتها، د. مختار شخصية مبهرة عرفتها في إحدى محطاتي، شخصية دمجت بين استقلالية فكر الحكماء ورحمة وتعاطف الآباء المثالية، رسمت نفسها في قالب هيبة الملوك الخيالية ونبل فرسان الروايات المنسية..

        شخصية قيادية جمعت بين جود وسخاء قدماء العرب، وحيوية وجنون الجنود المناضلون من أجل قضاياهم، تميزت بسحر البسمة والطاقة المفعمة، والقدرة على الاستبصار والتخطيط..

       ما هذا القائد الذي يدهشني يومياً بمواقفه المتعددة وكأنه عشر شخصيات في شخص واحد؟ كنت ومازلت ابحث عن القدوة واقرأ في سير القادة العظماء واتسأل عن ماهية الطريقة التي اسلكها من أجل المضي قدماً، حتى لو لم يكن بإمكاني التنبؤ بالنتيجة..

 

القيادة الموقفية..

      تناولت مؤخراً مبحث القيادة وكلنا يعرف أن القيادة هي (قوة التأثير في نشاط فرد أو مجموعة بغية تحقيق الهدف).  وتعددت أنواع القيادة وشدَّني مصطلح (القيادة الموقفية) جداً، ووجدت قائدي وقدوتي د. مختار خير من يمثلها، تعمقت في البحث عن نظرية القيادة الموقفية Situational Leadership التي طرحت كنظرية هيرسي وبلانشارد للقيادة الظرفية في عام 1968 م.  أكدت النظرية بأنّ سلوك القائد يتفاعل مع مستوى نضج المرؤوس ويؤثر بشكل ملحوظ على فاعليّة القيادة في تركيزها إمّا على المهمة Task أو على العلاقة مع المرؤوس Relationship

 

       تتلخص النظرية بشكل مبسط في قيادة الناس بالموقف الذي يفرضه عليك الطبيعة البشرية لا بأسلوب محدد ويجب ان يستطيع القائد تنميط نفسه تباعاً لطبيعة الموظف أي حسب تغير النضج الوظيفي للعاملين معه (من حيث الحماس والكفاءة).. أي أن يختلف موقفه كقائد بإختلاف الموقف ‏الذي يتعرض له.

 بمعنى انه لا يوجد اسلوب قيادي موحد ومناسب لجميع المواقف، وهذا ما شهدته في تعاملي مع د. مختار فهو قائد موقفي فيستطيع التأقلم السريع والبقاء مرناً بين التوجيه والمساندة والتطوير والدعم والتدريب والتفويض والتشجيع خلال اليوم بشكل يدعم تحقيق مهامه وهنا كانت عظمته..  ما بالكم بذاك القائد الذي يتبنى احتياجات البشر!  بالتأكيد هو مولود ليكون قائداً بالفطرة بالفعل، فاختلاف سلوك القائد تجاه مرؤوسيه حسب الموقف من موقف إلى آخر واختلاف تصرفه في كل مره هو ما يحدد فعاليته في القياده الموقفية ولكم ان تتخيلوا الموهبة التي يتميز بها هذا القائد من نضج وظيفي وذكاء اجتماعي وفهم للإحتياجات الإنسانية.

 

 

كان قائداً داعماً ومسانداً

عرفته في تلك الوكالة العريقة وشهدت موقفه مع علياء الموظفة الثلانينية الماهرة الخجولة.! فكان قائداً مسانداً لها،

 سمعت صوتاً مرتفعاً يومها يصدر من مكتبه، جريت على مكتبه لأفهم ما يحدث…  ووجدتها تقف صامته،

– اتصلي بهم واعطهم اوامرك في كامل القطاعات، لا تترددي، لا تخجلي، من اليوم وصاعداً انتِ من سيوجههم…!

قال عبارته بسرعه وبلهجة آمره وبصوت غاضب.!

في لحظة دخولي استجمعت علياء ثقتها بنفسها وكانت ستتفوه ببعض عبارات الرفض والممانعة لتكليفها بهذه المهمة،

أكمل هو بنفس اللهجة الآمرة الحاسمة.!!  تستطيعين…! نعم تستطيعين…!

لم تعترض علياء وخرجت من مكتبه مسرعة وقد تشرَّب عقلها بثقة صوته، خرجت ورائها متسائلة، ما به د. مختار يصرخ …!؟

فقالت علياء بخجل وتردد: انا متمكنة ومجتهدة، ولكن تنقصني الثقة بنفسي ربما! ولقد تسببت في تأخير تأدية بعض المهام لخوفي من المواجهة.

قلت لها في محاولة لتهدئتها: د. مختار شخصية داعمه محبة للإقدام والمبادرة، له نظرته الخاصة ولولا تيقنه من قدراتك لما صرخ هكذا! ربتت على كتفها فهزت هي رأسها مؤيدةً وركضت لمكتبها لتنهي مهامها.

     أجرت علياء بعض المكالمات وصممت النماذج المطلوبة واعدت المحاضر التمهيدية وارسلت رسائل البريد الإلكتروني، وما انتهى اليوم إلا وقد شكلت اللجنة الجديدة مع شركاء الإدارة الخارجيين لمتابعة سير الاعمال في ملفها الجديد، كدت ان اتنفس الصعداء وابتسمت لها وقلت: أرأيتِ…؟؟ كان صادقاً في انفعاله اذن…!

تنهدت علياء تنهيدة طويلة وقالت: نعم، لقد كان صادقا جداً…!

سمعنا طرقاً خفيفاً على باب المكتب ليظهر د. مختار مبتسماً..

قائلاً موجهاً حديثه لعلياء: هل كان من المفروض ان اصرخ دائماً لتتأكدي بأنك تستطيعين انجاز المهام وحدك وبدوني…؟

وخرج في طريقه من مقر العمل..

وقفت علياء ورفعت رأسها وفردت اكتافها قائلة لنفسها بصوتٍ عالٍ: انا واثقة من نفسي وامتلك الحماسة الكافية للقيام بكل أوامر مديري واتحمل مسؤولية قراراتي. قلت لها ضاحكة: أتحتاجين لمن يصورك في لقطتك التاريخية هذه وانتِ تتحدثين الى نفسك هكذا…؟؟

 

قائداً مشاركاً وموجهاً..

       تتوالى ذكريات مواقف د. مختار القيادية ويبرق وجه سعد الموظف المستجد بينها وقد كان د. مختار قائداً موجهاً له، فقد وصل سعد الإدارة بعد ان وضع د. مختار الخطوات والاجراءات الترتيبية لمهام جديدة مستحدثة، كان سعد موظفاً جديداً وحديث التخرج ذو كفاءه منخفضه ولكن حماسه كان مرتفعاً جداً، كنا نحتاج لإعطائه بعض الصلاحيات ليساعدنا في المهام الجديدة تلك..

 ناداه د. مختار وسأله: سعد هل تستطيع القيام ببعض المهام الجديدة؟ وافق سعد مباشرةً، فناوله د. مختار ملف الإجراءات المستحدثة قائلاً: يمكنك قراءتها والرجوع اليَّ لمناقشة أي ملاحظات بشكل تفصيلي معي، رد سعد بسعادة: حسناً، غداً سأكون قد انتهيت من الاطلاع عليها.

في اليوم التالي لم أر أي أحد منهما، وتردد في المكان سؤالين! أين سعد؟ أين د. مختار؟ ثم ظهرا آخر اليوم وكأنهما صديقان قديمان يعرفان بعضهما من أعوام، يضحكان ويتجاذبان أطراف الحديث في مواضيع عامة، لم استغرب أسلوب د. مختار فهو يمنح الثقة كي يجدها في فريقه.

    أُسندت إلى سعد المهام الجديدة وطلب منا د. مختار ان نراقبه عن بعد وأن ندعمه عند احتياجه، وخصص من وقته يومياً نصف ساعة لشرح ماورد في الأدلة التنظيمية لسعد المستجد بنفسه. كنت أرى تقدم سعد المهني وازداد انبهاراً بقيادة د. مختار فقد اجتمعت به خصائص القيادة الموقفية جميعها.. الذكاء العاطفي، قوة الإقناع والتأثير، والقدرة على حل المشكلات واتخاذ القرارات، والقدرة على قيادة المشاريع وغلف هذا كله بقدرته الفائقة على التخطيط والتفكير الإبداعي

أنهى سعد فترة ثلاثة أشهر وبدأت مؤشراته المستحدثة تأتي بثمارها وكانت المؤشرات خضراء دوماً،

سألته: ما رأيك بالعمل مع د. مختار؟؟  انتفخ صدر سعد كأنه معجبا بنفسه وقال: سأفعل ما يفعله دوماً! قلت: ومالذي يفعله دوماً؟

قال: أنه يسعى لتأهيل مزيداً من القادة أمثالي.

 

 

قائداً مفوضاُ وممكناً

كان د. مختار يقوم بتوقيع بعض المعاملات مسرعاً ودخل مكتبه الأستاذ إسماعيل الموظف الخبير في وكالتنا وقال له باستعجال: انا مضطر للرحيل الان للحاق بطائرتي يا إسماعيل! لدينا بعض الامور العاجلة التي لا تحتمل التأجيل إلى حين عودتي سأتركها لك لإنهائها وارجو ان تحدد فريق عمل لتناول هذه الأعمال واعتمادها

  • اطمئن فكل الجوانب التي تعتمد عليها هذه القرارات العاجله هي من صميم عملي من 2٠ عاماً ولدي القدرة والمعرفة المتكاملتين

 لاتخاذ أنسب القرارات وقد اتممت دراستي عليها. قال أستاذ إسماعيل عبارته السابقة بحماس وهدوء

فرد د. مختار واثقاً: ممتاز سيكون لكل قرار اتخذته أهمية لديَّ

   شهدت الموقف مبتسمةً فقد كان د. مختار يمتلك الخبرة والقدرة ويستطيع كذلك الثقة بفريقه فكان القائد المفوض المُمكن الذي يمنح الحرية للموظفين لتحمل المسؤوليات ويؤمن بقدراتهم وبالعمل الجماعي وكان الأستاذ إسماعيل هو الأقدم والأكفأ بينهم.

 

 

بكيناه دمعاً..

اذكر قبل رحيله بأيام نادنا نحن أعضاء مجلس ادارته بلا سابق انذار، حسبنا أن هناك اجتماعاً طارئاً او أن هناك ضيفاً على وشك الوصول…!

اصطففنا حول مكتبه واكتست ملامحه بحزن ورسم جاهداُ على ملامحه ابتسامة إرضاء لنا، ثم اطرق بوجهه ليحدق في بعض الأوراق امامه.. قائلاً: *(تركت ورايا قادة عظماء! )*

بدأ توجسنا وتعلقت عيوننا بتقاسيم وجهه الأصيلة! رفع رأسه وهنا لمعت دمعه خفية في عينيه وأكمل قائلا: *(تأكدوا ان ليس هناك ما يعجزكم…!) * وتذكروا أنكم الأمهر والأقدر والأجدر بين موظفين هذه الوكالة، سأترككم واغادر المكان واروع ما فيه أنتم فريقي.

     جزعنا كلنا واختلفت ردات فعلنا! ومنا من لم يفهم كلامه أصلاً، غرغرت عيناي بالدمع كطفله وانصدم سعد وجلس في أقرب مقعد وكرر الأستاذ اسماعيل كلمته الأخيرة بصيغة الدهشة: (ماشي…؟  لا لا؟؟ أكيد تمزح…؟). وعلق أحد الزملاء مستعجباً: أتغادرنا هكذا؟ بعد ان استحدثت كل هذا المكان بنفسك؟؟ قاطعه آخر: لقد بنيت وكالتنا طوبةً طوبة بيديك. لن نوافق على بديل لك.! وأجهشت علياء باكيةً بصمت، وكنت احسب انني الأضعف بينهم، ولكن ما لبثنا الا ان اغدقنا بالدمع جميعنا

 

 

مـــر مــن هــنا..

      كنت في الممر الأقرب لمكتب قائدنا الدكتور مختار بعد شهر من رحيله، رأيت الباب مفتوحاً، تحمست لرؤيته، ظننت انه سيكون هناك، طرقت الباب ودخلت، لأجد سعد (الموظف المستجد) على المقعد الجانبي للمكتب حزيناً متأملاّ في اللاشيء! لم ينتبه لي ولم يلحظ وجودي! قلت بصوت منخفض: سعد ما الذي تفعله هنا؟

     هبَّ واقفاً وتلعثم قائلاً لا شيء أستاذه ايمان، فقط أفتقد أوامره، افتقده جداً!! جئت اقتفي أثره، هنا تحشرج صوتي بالخروج…!! ولم أستطع الرد عليه..  وأكمل هو بصوت أقرب للبكاء، أحببت ان أرى مكتبه وان اقتبس من وهج ذكراه، لقد أضاء امامنا الكثير وألهم فينا الحماس وأشعل فينا الطموح..

      اخذ سعد يصف قائدنا الراحل بكل شغف وسرحت بين حروفه متأملةً المكتب بدوري، قلم الرصاص، الممحاة، اجندته الجلدية، دروعه المصطفة بترتيب خلف مكتبه، كوب قهوته، نعم لقد صنع أثراُ بالفعل! فتبنيه لأسلوب القيادة الموقفية كان مؤثراً، إن أعظم القادة لا يمارسون القيادة الموقفية لأنهم لا يعرفونها او لأنها صعبة التطبيق او لسرعة المتغيرات البيئية، ولكن د. مختار تبناها ووجَّه كل من حوله لتحقيق أهدافهم الشخصية ولتحقيق اهداف الوزارة، حقاً ان القيادة هي فن التأثير وتوجيه الناس لتحقيق المهمة…!

 مرَّ من هنا قائداً، قائداً بالفطرة، محسناً وقائداً لن يتكرر، كل من يذكره الان يتمتم، مرَّ من هنا!

  نعم د. مختار مرَّ من هنا، فقد تحدى وانجز، استهدف ونافس وجدد!!  طوَّر وأحدث الفارق!! ثم رحل!

اذكر ذلك التاريخ جيداً.. الذي انهالت فيه عليَّ رسائل الواتس لتخبرني بصدور قرار تنصيبه للمنصب الجديد..  وكأن تلك الرسائل كانت تعزيني لفراقه.. مدرسة في القيادة رحلت عني.. كان ردي رتيباُ بارداً مكرراً..  واستخدمت خاصية النسخ واللصق.. (نعم اعلم بذلك.. الله يوفقه)

تردد صدى شعر أحمد شوقي ليغمرني بهالة ضياء واجلال!

‏وكن رجلاً إن أتوا بعدهُ.. يقولون مرّ وهذا الأثر!

نعم لقد مرَّ الدكتور مختار من هنا…!

 

بقلم:

أستاذة/ ايمان أسامه شرف

أخصائي جودة إدارية -مدقق داخلي

الثلاثاء 29 أغسطس 2023م