تقرير الجودة الصحية_إعداد: أمل الحساني

 

من الواضح أن الصوم مدرسة أخلاقية إلى جوانب فوائده الصحية المختلفة لكن الانضباط النفسي والأخلاقي هو الدرس الأول والهام في هذه المدرسة المقدسة ، وأوصي نبينا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم-بالصوم فيقول: ((عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له)) لفوائده النفسية والجسدية وسنسرد الحديث في الأسطر القادمة عن الفوائد النفسية التي تنعكس على الفرد خلال أدائه فريضة الصيام وأول هذه الفوائد:

 إنماء الشخصية ومعناه النضج وتحمل المسئولية والراحة النفسية إنه يعطي الفرصة للإنسان لكي يفكر في ذاته، ويعمل على التوازن الذي يؤدي إلى الصحة النفسية. وبالطبع فإن الصيام يدرب الإنسان، وينمي قدرته على التحكم في الذات إنه يخضع كل ميول الدنيا تحت سيطرة الإرادة، وكل ذلك يتم بقوة الإيمان ، وتدريب لهم على الصراع الأكبر الدائم، صراع الحياة التي يُمارِسها الجميع، وتقع تبعاتها على الجميع، وأبسط ألوان هذا الصراع أن الحياة لا تُعطي أحدًا كل أمنياته، ولكن النفس في ذات الوقت خُلقَت واسعة المطامع والأحلام، ولكبحِ جماحها فإن الأمر يحتاج إلى تدريب، وخيرُ تدريب هو الامتِناع الاختياري عن بعض الشهوات وبعض الضروريات فترة من الوقت، فهذا هو الذي يُعطي النفس القدرة على تحمُّل الامتناع الإجباري عن تلك الضرورات حين تحكم بذلك ظروف الحياة؛ ولذلك فُرض الصيام لمنفعَة الفرد في الحياة الدنيا، في ذات الوقت الذي يُجزى عليه في الآخرة أعظم الجزاء.

 

ويقول الدكتور العالمي ألكسيس كاريك الحائز على جائزة نوبل في الطب في كتابه الذي يعتبره الأطباء حجة في الطب ( الإنسان ذلك المجهول ) ما نصه: إن كثرة وجبات الطعام وانتظامها ووفرتها تعطل وظيفة أدت دورا عظيما في بقاء الأجناس البشرية، وهي وظيفة التكيف على قلة الطعام، ولذلك كان الناس يلتزمون الصوم والحرمان من الطعام، إذ يحدث أول الأمر الشعور بالجوع، ويحدث أحيانا التهيج العصبي، ثم يعقب ذلك شعور بالضعف، بيد أنه يحدث إلى جانب ذلك ظواهر خفية أهم بكثير منه، فإن سكر الكبد سيتحرك، ويتحرك معه أيضا الدهن المخزون تحت الجلد، وبروتينات العضل والغدد وخلايا الكبد، وتضحي جميع الأعضاء بمادتها الخاصة للإبقاء على كمال الوسيط الداخلي، وسلامة القلب، وأيضًا من فوائده تحفيز التواصل الاجتماعي بالتعاون على فعل الخير كتفطير الصائمين وإخراج الصدقة والزكاة للمستحقين.

وايضًا للصوم أثرًا بالغًا في معالجة الاكتئاب النفسي، الذي من أهم أعراضه الشعور باليأس والعُزلة، وتراجُع الإرادة، والشعور بالذنب، والتفكير في الانتِحار، فالصوم بما يَمنحه للصائم من أمل في ثواب الله يجدِّد الرجاء لدَيه في الخروج من دائرة اليأس، كما أن المشاركة مع الآخَرين في الصيام والعبادات والأعمال الصالحة خلال رمضان يتضمن نهاية العُزلة التي يفرضها الاكتئاب على المريض، وممارسة العبادات مثل الانتظام في ذكر الله وانتظار الصلاة بعد الصلاة في هذا الشهر تتضمن التوبة، وتُقاوِم مشاعر الإثم، وتُبعد الأذهان عن التفكير في إيذاء النفس، بعد أن يَشعُر الشخص بقبول النفس والتفاؤل، والأمل في مواجهة أعراض الاكتئاب.

والصوم علاج للقلق النفسي الذي ينشأ من الانشغال بهموم الحياة وتوقُّع الأسوأ، والخوف على المال والأبناء والصحَّة، فشعور الاطمئنان المصاحب للصيام، وذِكر الله بصورة مُتزايدة خلال رمضان فيه أيضًا راحة نفسية وطُمأنينة تُسهِم في التخلُّص من مَشاعر القلق والتوتُّر.

كما يُساعد الصوم في علاج الوساوس القهرية التي يُعاني منها عدد كبير من الناس، والتي تكون في صورة تكرار بعض الأفعال بدافع الشكِّ المرَضي مثل وسواس النظافة، الذي يتضمَّن تكرار الاغتِسال للتخلُّص من وهم القَذارة والتلوث، وهناك الأفكار الو سواسية حول أمور دينية أو جنسية أو أفكار سَخيفة تتسلَّط على المَرضى ولا يكون بوسعِهم التخلُّص منها، ويُسهِم الصوم في تقوية إرادة هؤلاء المَرضى، واستِبدال اهتِمامهم بهذه الأوهام ليحلَّ محلَّها الانشِغال بالعبادات ومُمارَسة طقوس الصيام والصلوات والذِّكر؛ مما يُعطي دفعة داخلية تُساعد المريض على التغلُّب على تسلُّط الوساوس المرَضية . كذلك فإن أهمَّ ما يُميز شهر رمضان عن بقية العام هو الجو الروحاني الخاص الذي يُميِّز هذا الشهر من المُشاركة العامَّة بين الأفراد في تنظيم أوقاتهم خلال اليوم بين العبادة والعمل في فَترات محدَّدة وتخصيص أوقات موحَّدة يَجتمعون فيها للإفطار، وهذه المُشاركة في حدِّ ذاتها لها أثر إيجابي من الناحية النفسية على المرضى النفسيين الذين يُعانون من العُزلة ويَشعُرون أن إصابتهم بالاضطراب النفسي قد وضعت حاجزًا بينهم وبين المُحيطين بهم في الأسرة والمجتمع، وشهر رمضان بما يتضمَّنه من نظام شامل يُلقي بظلاله على الجميع حين يَصومون خلال النهار، وتتميَّز سُلوكياتهم عمومًا بالالتزام بالعبادات، ومُحاوَلات التقرُّب إلى الله، وتعمُّ مظاهر التراحُم بين الناس مما يبعَث على الهدوء النفسي والخروج من دائرة الهُموم النفسية المُعتادة التي تُمثِّل مُعاناةً للمَرضى النفسيين، فيُسهِم هذا التغيير الإيجابي في حدوث تحسُّنٍ في حياتهم وصحَّتهم النفسية بشكل عام.

 

وأثنى الله على المتقين بأنهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ* كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) الذاريات15ـ 19، وهنا يثور في الذهن تساؤل، لقد اختار الله الليل ليكون وقت الاستغراق في العبادة، لكن هل يكون ذلك على حساب صحة الإنسان العقلية، ونحن نعلم كم هو مفيد نوم الإنسان في الليل؟ والجواب أنه لن يكون ذلك أبدًا، فقد كشفت دراسات الأطباء النفسيين في السنين الأخيرة أن حرمان المريض المصاب بالاكتئاب النفسي من النوم ليلة كاملة، وعدم السماح له بالنوم حتى مساء اليوم التالي هذا الحرمان من النوم له فعل عجيب في تخفيف اكتئابه النفسي وتحسين مزاجه حتى لو كان من الحالات التي لم تنفع فيها الأدوية المضادة للاكتئاب، ثم أجريت دراسات أخرى ـ في باكستان تحديدا ـ فوجدوا أنه لا داعي لحرمان المريض من النوم ليلة كاملة كي يتحسن مزاجه، إنما يكفي حرمانه من نوم النصف الثاني من الليل، لنحصل على القدر نفسه من التحسن في حالته وصدق العلي العظيم (كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، إذن لقيام الليل والتهجد في الأسحار جائزة فورية، وهي اعتدال وتحسن في مزاج القائمين والمتهجدين، وفي صحتهم النفسية.

 

 

المصادر: