قديمًا قالوا بأن “الحاجة أم الاختراع” المثل الذي كان ملهم لكثير من الأشخاص في سبيل تلبية الاحتياجات للأفراد والجماعات وما تواجههم من معاناة في حياتهم اليومية. فكم من الاختراعات ظهرت وأحدثت ضجة في هذا العالم كان سببها “احتياج” استدعى التأمل والتفكير لإيجاد بدائل وحلول، وعلى ذلك شواهد عديدة منها:

السماعة الطبية: يُذكر أنه في فرنسا أصيبت احدى الفتيات بوعكة صحية مما تطلبت حالتها استدعاء طبيب إلى منزلهم لفحصها، وقدم طبيب يدعى (رينيه) وطلب من الفتاة الإذن لتشخيصها من خلال وضع أُذْنه على صدرها لسماع نبضات القلب ولكن الفتاة رفضت من شدة خجلها فما لبث إلا أن فكر الطبيب لإيجاد وسيلة أخرى تساعده في التشخيص من دون أن تسبب الحرج، فقام بلف جريدة ورقية على شكل أسطواني ووضع إحدى أطراف الجريدة على جسد المريضة والطرف الآخر على أذنه فاستطاع بذلك سماع نبضات القلب بشكل واضح ودقيق ومنها انطلقت فكرة السماعة الطبية وتطورت إلى أن وصلت لما هي عليه الآن.

لصقة الجروح: في العشرين كانت هناك زوجة ليس لديها خبرة كافية في أمور الطبخ وتواجه معاناة يومية في جرح يدها وحرقها في المطبخ فكان الزوج يقوم بتضميد يد زوجته بقماش الضماد واللاصق، وفي مرة جلس الزوج يفكر في لو أن هناك ضماد يمكن زوجته من استعماله بمفردها في حال جرحت يدها أثناء غيابه، ومنها بدأ الزوج في تجريب أكثر من فكرة وقام بدمج طبقة من القماش الضماد مع اللاصق في ضماد واحد لتتمكن زوجته من استعماله باليد الغير مصابة. ثم فكر في كيفية الحفاظ على الشريط اللاصق بعد فتحه من دون أن يجف أثناء فكه وقت التحضير فبدأ يجرب تغطية اللاصق بالقماش إلى أن توصل إلى قماش القفقاف والكرينولين كنوعية مناسبة وتؤدي الغرض بالشكل المطلوب. فتمكنت بعد ذلك الزوجة من استعماله بلا مساعدة عند جرح يدها، فقط تقوم بنزع القماش وتضميد يدها بكل سهولة ومنها وجدت فكرة لصقة الجروح.

النظارة الطبية: في إحدى التجارب الفيزيائية للعالم الإيطالي (سالفينو) حول انكسار الضوء وانعكاسه قام بإلحاق الضرر بإحدى عينيه، فنتيجة لذلك فكر في تصحيح بصره فجرب وحاول من خلال استعمال قطعتي زجاج مقوستين يضعهما على عينيه فوجد أن بصره يتحسن وأصبح يرى بشكل جيد بفضل قطعتي الزجاج، ومنها بدأت النظارة الطبية وتطورت من قبل العديد من العلماء إلى أن وصلت للشكل الذي عليه الآن.

 

لنستوقف عند هذا ونتفكر قليلاً فيما سبق لنرى أن الحاجة التي ظهرت في المواقف السابقة واستعمال أبسط الأمور كالورق وتجربة الأقمشة والزجاج كانت وراء أعظم الاختراعات التي أحدثت ثورة في العالم وغيرت مسار الحياة نحو الأفضل. ولو ظلت الاختراعات حبيسة الأدراج ولم يتم التطوير والابتكار عليها لتتلاءم مع كل عصر وزمان بالتحديات التي تولد فيه لما لبت الاحتياج ولظلت مجرد أفكار صالحة للزمن العتيق. ولكن اليوم ونحن في 2016 ومع ظهور الثورة التكنولوجية والكثير من الاختراعات التي لا يمكن الاستغناء عنها كالأجهزة الذكية باتت من الأساسيات التي نحتاج إليها في كل مكان وزمان ليكون “الاختراع أم الحاجة” شعار أنسب لزماننا هذا، ولكن يظل السؤال هنا (أين هو الأب)؟

 لعلنا نجد الجواب في التقرير الذي نشره مؤتمر القمة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية (ويش) حول الانتشار العالمي للابتكار في الرعاية الصحية 2015 ذكر فيه العوامل الأساسية لتمكين الابتكارات في القطاع الصحي وأن نجاح أو فشل تنفيذ الابتكار ونشره في النظام الصحي لا يعتمد في المقام الأول على سمات الابتكار أو خصائص من يتبناه، بل يعود إلى التفاعلات المتعددة والمعقدة بين عوامل التمكين والسلوكيات لدى العاملين في الخطوط الأمامية، وهي أربعة عوامل تمكين أساسية للنجاح:

  • وجود الرؤية والاستراتيجية والقيادة القوية لبناء الدعم وتحقيق الرؤية والتغيير.
  • وجود مؤسسة محددة أو برنامج أو مشروع محدد لتعزيز نشر الابتكار وتوفير الموارد اللازمة لذلك.
  • تمويل البحث والتطوير والنشر.
  • تفعيل الشبكات وقنوات التواصل بين مكونات الرعاية الصحية مع القطاعات الأخرى والجمهور في ضمان أن يعمل الجميع لتحقيق هدف مشترك وتبادل الرؤى حول الوسائل الناجحة والفاشلة.

وفي الختام، الحاجة كانت نقطة البداية للتطوير وظهور الابتكارات ومع كثرة التحديات اليوم في القطاع الصحي أصبح الابتكار ضرورة من ضروريات الحياة لتقدم الأفضل ويتطلب الدعم الأبوي الذي يحتاجه وبشدة في عصرنا ولا يسعنا الاكتفاء فقط بوجود الأم لقول المثل “يد وحدة ما تصفق”.

 

 

 

أمل الحساني