في مغامرة مثيرة تقمص أحد الصحفيين هيئة طبيب واستطاع أن يدخل بهذه الهيئة عدة مرافق صحية، تجول في أقسامها وكشف على مرضاها بدون اكتشاف حقيقة أمره من قبل العاملين بها.

 

وانقسمت الآراء حول فعله ما بين مؤيداً يرى ذلك تساهلاً، ومعارضا يرى أن في ذلك انتهاكاً للقانون. ولكن يجب أن نتجاوز ردة فعل الوهلة الأولى من الحدث، ونتساءل كيف حدث ذلك؟ وما أثره على سلامة المرضى في منظمات الرعاية الصحية؟  وكيف يمكننا الاستفادة مما حدث؟   

 

في عدة دراسات وتجارب قام بها علماء علم النفس الاجتماعي تؤكد أن هناك ارتباط ما بين السلطة والمكانة، والاستجابة المبرمجة للسلوك الإنساني بل يتعدى هذا التأثير السلطة الحقيقية والرسمية الى المظهر الخارجي لها، وأن رموز السلطة والمكانة حتى لو كانت مزيفة لها نفس تأثير السلطة الفعلية.  يقول عالم النفس في جامعة ولاية أرزونا أ.د. روبرت ب. سيالديني حول تأثير السلطة وعلاقتها بالاستجابة المبرمجة أو الآلية ” من أكثر المجالات التي تتضح فيها ضغوطات السلطة هو المجال الطبي، فالأطباء الذين يملكون المعلومات الدقيقة والمتخصصة يملكون معها التأثير ويضعهم ذلك في قمة السلطة، وبما أن تكوين المؤسسات الصحية متدرج من حيث القوة والمنزلة فالعاملون يعرفون ذلك بوضوح، لذلك تطور تقليد منذ زمن طويل ضمن الطاقم الطبي بالطاعة الآلية لأوامر الطبيب “

 

ويضيف “من المثير للقلق أنه عندما يخطئ الطبيب لا يفكر أحد من الطبقات الأدنى في الهرم من مناقشة قراره، لأنه عندما يعطي شخص ذو سلطة شرعية أمراً يتوقف المرؤوسون عن التفكير ويبدؤون بالاستجابة”

 

ويؤكد ذلك مايكل كوهين في كتابه أخطاء الدواء بأن كثيرا من المشكلات تعود إلى الاستجابة المبرمجة والآلية لأوامر الطبيب المعالج ” حالة بعد أخرى لا يناقش المرضى ولا التمريض ولا الصيدلي ولا الأطباء الآخرين الوصفة الطبية”

 

والعجيب أن الرموز مثل الألقاب العلمية والمظهر الخارجي مثل الملابس لهما نفس تأثير السلطة والمكانة حتى ولو كانت مزيفة، وغالبا ما نشاهد الممثلين يتقمصون هيئة الطبيب في الإعلانات لإقناع الجمهور بسلعة ما، مستغلين احترام المجتمع للأطباء في الترويج لمنتجاتهم، ويؤكد د. روبرت أن ذلك “في الحالات العادية لا يعد ذلك مهماً لدينا، وهل هو منطقي أم لا؟ فغالبا لا نفكر بصورة شاملة بل ننتبه لمظهر واحد فقط ونتصرف بموجبه”

 

ففي إحدى الدراسات قام أحد الباحثين بإجراء (22) اتصالاً هاتفيا مع أقسام التمريض في أجنحة مستشفيات عده وعرف بنفسه على أنه طبيب في المستشفى وأمر الممرضة أن تعطى (20) غرام من دواء معين لمريض محدد بالقسم.

 

كانت هناك أربعة أسباب يفترض أن تجعل الممرضة حذرة في تنفيذها للأمر:

 

–         أعُطي الأمر هاتفياً وهذا مخالف لسياسة المستشفى.

 

–         لم يكن الدواء مرخصا.

 

–         كانت الجرعة الموصوفة زائدة عن الحد الأقصى المسموح به بمقدار الضعف.

 

–         أعُطي الأمر من قبل شخص لا تعرفه الممرضة بتاتا.

 

مع كل هذه الأوامر التي تبدو غير منطقية وصادرة من شخص غريب فقد بادرت نسبته (95%) من الممرضات إلى تحضير الدواء لإعطاء المريض الجرعة الموصوفة قبل إيقافهن من قبل المراقب السري للدراسة. مما يؤكد استجابة الأشخاص لرموز السلطة بصورة لا واعية. كما قام عالم النفس الاجتماعي ليونارد بيكمان بدراسة أعطت دلائل على مدى صعوبة معارضة الأوامر التي يعطيها أشخاص يرتدون أزياء السلطة وأن الأشخاص على استعداد دائم لطاعة أي شخص يرتدي ملابس رسمية، مهما كانت طبيعتها، من الطبيب إلى الشرطي إلى حارس الأمن.

 

وبما أنه عادة لا يلفت انتباهنا التأثير العميق للمكانة السلطوية ورموزها على صحة قراراتنا في الظروف العادية، فالغالب يتركز الانتباه للمظهر الخارجي للشخص، لهذا عندما لبس الصحفي بالطو الطبيب وتقلد سماعته لم يلفت انتباه العاملين سوى رمز الطبيب وبدون وعي تم تسهيل مهمته تقديرا لمكانته، لأن هذا هو السلوك الاعتيادي في الظروف المعتادة.

 

ولكي نتجنب هذا التأثير اللاواعي للسلطة ورموزها كما يرى د. روبرت يجب الانتباه الشديد لقوة تأثير السلطة مع إدراك سهولة تزوير رموز السلطة، فذلك يجعلنا في مأمن من سطوة هذا التأثير.

 

وفي كلتا الحالتين سواءً كان التأثير نابعا من سلطة حقيقية أم مزيفة فأن التنظيم الإداري المناسب لظروف العمل وشخصيات الموظفين يساهم بفعالية في الحد من تأثيرها ويزيد من مستوى انتباه وتركيز العاملين. بالإضافة إلى تحسين بيئة العمل ورفع مستويات العدالة والإنصاف بين الموظفين، فالإحباط الوظيفي يؤدي إلى عدم ولائهم وعدم اكتراثهم بما يحدث حولهم، وكذلك الحد من زيادة معدلات دوران الموظفين، وكثرة تنقلاتهم بين الأقسام المختلفة، فكل هذه العوامل تؤثر على تركز الموظفين، وتشتت من انتباههم.

 

 

أخوكم عبدالمحسن العلوني