كنت اتصفح أحد ملفات متطلبات التحول وتحقيق الرؤية. امامنا الكثير، والتغيير يتطلب حزماً مدروساً، وادارة الوقت تتطلب قدوةً وقدرة. وتناغماً عالياً بين فريق العمل المجتهد والعقول الخبيرة. سرحت في تقييم الميول والمهارات للمدقق الداخلي، وسرحت في تعزيز الاستعداد النفسي له لخوض معركة التغيير القادم، فقررت أن التجهيز الآتي لابد منه ولكن مع فئة تتحمل على عاتقها الإفصاح عن الموقف الحالي وعن كافة الحقائق المادية التي بشأنها أن تسهم في تحقيق الأهداف المشروعة والسليمة للمنشئات الصحية. انها فئة المدققين فالمتوقع منهم ألا يتأثروا في تكوين آرائهم أو أحكامهم بمصالحهم الشخصية أو بآراء أو تأثيرات الآخرين ليتم التحول المنشود.

 تذكرت ما حصل مع مدام أصيلة قبل التقييم النهائي لإحدى هيئات الاعتماد الصحية. اتصل مديري وأنا في قمة الانشغال بتوزيع مهام فرق استقبال الزيارة. قبل الزيارة بيومين فقط.. اتصل قائلاً: إيمان اذهبي لمراجعة فصل المعايير مع مدام أصيلة. قلت: أنا مشغولة جداً سأناديها في مكتبي. أكد مديري بلهجة آمره: إيمان اصعدي لها.  فمعاييرها تستلزم تطبيق شامل واستدلال يبدأ بالمناقشة مع الموظفين الى مراجعة التوثيق في ملفات المرضى والاستدلال بعمل اللجان والادلة الإجرائية وسجلات العمل اليومية ومقابلة الموظفين والممرضين ومشاهدة عينية لبعض التجهيزات كما أن فصلها يحتوي على عشرة سياسات متداخله أي أنها تتقاطع مع معايير مكافحة العدوى والصيانة والامن والسلامة والجودة الشاملة والصحة المهنية، قلت مستسلمة: حسناً حسناً ذاهبه بنفسي.

 لم يتم التنسيق مع مدام أصيلة. لضيق الوقت، وصعدت لقسمها مباشرة. عرَّفت عن نفسي: إيمان من الجودة. فاستقبلتني في مكتبها بالبشاشة والابتسامة.  قلت: أتمنى أن تكون زيارتي خفيفة عليك. فقالت: أريني أسوء ما لديك فأنا وفريقي جاهزون لأسوء مدقق.  وبدأنا بمراجعة فصلها.  لمست من اللحظة الأولى حضور فكرها. وحسمها في اجاباتها. اكتشفت اتزانها من أسلوب حديثها وجاهزيتها النفسية رغم مفاجئتي لها. كل شيء جاهز بالفعل. لم أشهد إلا روعة الترتيب لفهرسة المستندات على برنامج اكسل وحسن التنظيم لمتطلبات المعايير الادارية. ملف امتيازات الاستشاريين من داخل المستشفى ومن خارجها. ملفات التدريب المستمر. استعدادات الكوارث الطبيعية والمخاطر البيئية مكتملة. كانت متماسكة وأحببت تمكنها بالفعل من عملها. ملفات توثيق عمل الصيانة الوقائية مكتملة. كتيبات الأجهزة مصفوفة وقوائم العمل اليومية مرتبة.. فاجأتها بالسؤال عن مشاريع التحسين القائمة فوجدت ركناً خاصاً لها في مكتبتها. منظمة ومقسمة الى مشاريع مغلقة وأخرى مفتوحة أي مازال العمل عليها قائماً. محاضر الاجتماعات الداخلية. تقارير اللجان السنوية والشهرية. كل شيء جاهز لم أشهد في المستشفى على دقة التوثيق للمؤشرات كما لديها. طلبت وثائق الإجراءات الفنية العامة والخاصة لعلي أجد فيها نقصاً. !! فوجدت أجمل تنسيق لملفاتها الورقية وتمكنها من تناول المعايير وتسلسلها المنطقي في اثبات تطبيق المعايير باختلاف أنواع الاستدلال واستطعت أن أتأكد من تحقق معايير فصلها بالكامل وبهدوء وفي قمة الثقة انهت مدام أصيلة لقاءنا قائلة. ستبهركم نتيجة فصلي بإذن الله. !!

 عدت لمكتبي ولخصت الزيارة للمدام أصيلة بكلمتين لمديري: النجاح محسووووووووم. واكتفى بذلك مديري.

انتهى التقييم وانتهت الزيارة. غادرت اللجنة، وظهرت نتائج الزيارة.

 فصل معايير مدام أصيلة حصل على 70 % فقط باعتماد مشروط ويجب أن نعد خطة تحسين في 60يوم لاستكمال معايير التحقق. بالطبع كنت مُلامة. وغضبت جداً وكنت مصدومة كلياً. فقد راجعت معها كل شيء. وتم توجيه العتب لي أخيراً. صعدت لها في نفس يوم استلام النتائج. كنت أحمل في جعبتي أقسى أنواع الانتقاد والتوبيخ على سوء تصرفها وسلوكها مع اللجنة الزائرة. مدام أصيلة. أنا ايمان. فُتح باب المكتب لأسمع صوت امرأة تبكي وتحشرج الدمع في صوتها قالت: تعالي تفضلي. وارتمت في حضني تجهش بالبكاء كطفلة. اختلاف كلي عن استقبالها المرة الأخيرة. كنت أنوي الهجوم استنكاراً لما حصل. ولما شاهدت احمرار وجهها ونوبة الفزع التي اصابتها. آلمني دمعها وكسر نفسي وسال دمعي معها. وأنا التي امتزجت مشاعري ما بين غضب وحزن. انفعال وانكسار. تعاطف وقهر. واختلطت احاسيسي في نفس اللحظة ما بين قلق عليها والتزام المحاسب المهني. لمت نفسي وانتقدتها فيجب أن أكون موضوعيه ومستقلة وأن أقدم رأي في الموقف بلا تحيز معها أو ضدها.

 كنت صامته ومع صمتي زاد نحيبها. تساءلت أهي نفس المرأة الواثقة من نفسها التي قابلتها قبل عملية التقييم. ؟؟ مدام أصيلة امرأة خمسينية منطلقة مبتهجة مقبلة على الحياة متمرسة مخططة ناجحة. أعرف أنها من المؤسسات لخدمتها منذ 20 عاماً في مستشفياتنا ولها بال طويل في تدريب الممرضات والممرضين بمستويات تعليمهم المختلفة وعلى اختلاف جنسياتهم. يسمونها الاكاديمية المتنقلة. أهي نفس المرأة التي شهدت إنجازها سابقاً. ؟؟ احترمت بكائها وجلست امامها صامته. ليتني أستطيع جبر كسرها. أعلم يقيناً أنها ايقونة الهام… فقد سمعت حكايات وقصصاً عن إنجازها الدائم في مجالها وتميزها في خدمة المرضى وزملاء مهنتها. وعلى اختلاف الروايات شهدت القصص كلها على جمال روحها وعن ذكائها وفطنتها وحبها لخدمة الناس من حولها.

بعد أن هدأت، سردت مدام أصيلة وغصة الحزن ترافقها سيناريو يوم الزيارة. قالت: أنهى المقيم الأول جلسته الافتتاحية بنجاح مبهر معي فقد كانت ملفات اللجان والمستندات الإدارية مكتملة كما شهدتي معي…

 وفجأة دخلت مقيمه أخرى لتكررN/a. Not. Non  على كل معيار… فبعد كل سؤال كانت تقول Not Met  (لم يحقق)… لم تستغرق وقتاً طويلاً لمراجعة مشاريعي  وعندما أردت التوضيح . ظلمتني أيضاً فكانت ترد Not Applicable (غير مطبق)..  ومع كل معيار جديد كانت تردد التحقيق لم يصل للمأمول. وكأنها تريد بفحصها إحباطي فكررت Non Accredited  (غير معتمد)  بعد كل رد مني. وكانت أسئلة فحصها لغرض معين وهو اسقاطي فقط فكانت تريد تعزيز فكرة غير محقق على كامل فصلي. غير مكتمل… لم يحقق…. ولم تنتظر تبريري او تسمع شرحي ولم تنظر بواقعيه لملفاتي بنظرة متفحصة. وتقريرها النهائي أثبت ذلك…

أعدت تناول بنود التقييم وأعادت هي بدورها اثبات امتثالها للمعايير واحترنا مجدداً. ولم نجد حلاً سوى ارفاق الدلائل والملفات كنسخ في خطة التحسين وعلى مدى شهرين كانت مدام أصيلة تصاب بنوبة بكاء كلما نظرت لنتيجة التقييم… ليتني أستطيع مداواة جرحها.

لم ولن أدقق فيما فعلت المدققة او المقيمة حينها. ولكنني اجتهدت مع مدام أصيلة بأن نجهز خطة عمل تحسينية متكاملة. قد تكون المقيمة صائبة في موقفها وفي تقييمها. لأنها كمقيمة يجب أن تتصف بسمات محددة تقنياً وأخلاقياً وعلى قدر كافي من التأهيل والتخصص العلمي.

مؤخراً ومع تناولي لأمور التدقيق الداخلي. تذكرت موقف مدام أصيله فكان لابد ان أعترف بأن نقص الاستعداد النفسي للمقيم لأداء عمله، خلل متواجد ويجب أن نتداركه لأننا بشر.  وأن خطأ المقيمة تلك سيتكرر كلما تجاهلناه، ولكن يجب ان يتحلى المقيم بصفه عامة بالأمانة والنزاهة والعدالة خلال ممارسة عمله كما يجب عليه مراعاة أرفع مستويات الموضوعية في جمع وتقييم والتبليغ عن المعلومات المتعلقة بالنشاط الذين يكون بصدد فحصه ويجب أن يكون قادراً على إرساء دعائم الثقة بينه وبين الموظفين. كما يجب عليه مراعاة التقييم المتوازن في كل الظروف. وأن يحترم قيمة وملكية المعلومات وألا يفصح عن تلك المعلومات بدون الحصول على الإذن والتفويض المناسب اللازم وأن يعمل باستمرار على تحسين مهاراته وتنمية مهارات الذكاء العاطفي وفاعلية وجودة الخدمات التي يؤديها ولن أنسى التذكير بأن ما كان الرفق في شيء الا زانه. نساعد على تأكيد هذه الصفات وانتشارها بشكل أوسع سواء قصدنا أم لم نقصد ذلك. لأن هؤلاء الموظفين والموظفات ما هم الا زملاؤنا واصدقاؤنا ومن تقاسمنا معهم هموم العمل وكفاح الأيام في محطة ما من محطاتنا السابقة.  لن نخسر شيء ان سادت الكلمة الطيبة مناهج تدقيقنا فهي صدقه. ولن يزيد التفاؤل والامل وجبر الخواطر إلا تسهيلاً وامتاعاً في يومياتنا. كما أن الامهال في تلقي الردود والمعطيات، وتفريغها في استنتاجات مدروسة والصبر والتأني في استجماع الدلائل والقرائن لن يحسم أمورنا إلا بالإيجابية واختصار الزيارات وتحقيق المراد منها.

 علمني التدقيق أموراً عميقة على الصعيد الانساني، فاحترام وتقدير اي مجهود مهما كان بسيطاً هو كنز من كنوز العلاقات البشرية، وأن التواضع هو التذكرة الذهبية لعبور النفوس ففيه عزة ورفعة , وحب العطاء يولد طاقة عالية عجيبة وروح التعاون تصنع المستحيل بل اشد المستحيلات، التميز لا بالألقاب ولا بالشهادات. التميز والنجاح هو ان تستطيع كسب ثقة وقلوب من حولك، ان التناغم بين فريق العمل المجتهد والعقول الخبيرة قد يكوِّن ثروة للمنشئات الصحية، هذا ما نحتاج اليه فعلياً، نحتاج بشدة الى التناغم ونحتاج الى دمج القوى وجمع الجهود، لا للـــ n/a. و not و non لمعاييرنا ونعم للمطبق والمحقق والمعتمد.

 

اخيرا،

مدام أصيلة الأصيلة هي مقيمة ومدققة الآن في احدى الهيئات الدولية ومتخصصة بالتدقيق في معايير فصلها على مستوى دولي. اثبتت لي أن صناعة الشغف موهبة وأنه كالإكسير السحري يعالج الروح ويسمو بها ولابد من السقوط مراراُ لنصعد القمم وان الحصول على الاعتماد ليست غاية ولكن الالتزام بتطبيق الجودة وتطبيق المعايير كل يوم كعادة يومية هو الاساس.

 

–(*)—-(*)—-(*)-(*)—-(*)—-(*)–

بقلم:

أستاذة/ ايمان أسامه شرف

ماستر جودة شاملة

مدقق داخلي

3 جماد أول 1441هـ