على سحاب أبيض تتوالى الافكار، لكل منّا قصة كفاح ورواية تأقلم، تحديات نعيشها ومجازفات نخوضها، في مواجهة الغيبيات ومع التسليم للقدر وبكل الايمان بالمكتوب، تصنع لعبة المخاطر آفاق تحديّات يومية تحمسنا لذلك اللامعلوم، وفي لعبة التحدي تلك! تقودنا التخمينات المصطنعة في خيالنا، فنحاول بناء عالم من الدفاعات والحواجز لحماية عوالمنا من مجهول لم يقع او تهديد سيحدث.  تلك اللعبة ماهي إلا إحدى فنون تعلّم منع وعدم تكرار أخطاء الماضي. ذلك هو عالم إدارة المخاطر Risk Management.

      فالمخاطرة RISK هي عبارة عن ربط بين احتمال وقوع حدث والآثار المترتبة على حدوثه وهي عملية تحديد وقياس والسيطرة وتخفيض المخاطر التي تواجه الإدارات وجميع أنواع الاعمال. لذلك فهي تحتاج لطاقة تخمين كبيرة وابتكار وتنبؤ لافتراضيات لم تحدث. يلقب العاملون بإدارة المخاطر والدارسون لعلومها بالإكتواريون اي علماء تخمين المخاطر، المسمى المقتبس من العلم الإكتواري (Actuarial science).

بعيداً عن المجهول…! وعلى ارض الواقع يتكوّن فريق من المخاطرين المبتكرين المجازفين معي، لنبدأ برنامج التدريب على سياسة وإجراءات المخاطر بسلسلة من الدورات المتتالية. جهّزنا البرنامج لنحلّق في واقعنا وننظر في خططنا بنظرة الطير العلوية الشمولية، وكان وقت التنفيذ، أين؟؟ في قاعة التدريب لإحدى الادارات العريقة.

    بدأتُ في إلقاء الدورات المتتالية. ولاحظت هدوء جاري مرشد في المكتب المقابل لقاعة التدريب، دعوته أكثر من مره للحضور معنا، كان رده في كل مره. حسناً في المرة القادمة، وبعد أيام وجدته متردد على باب قاعة التدريب.

-ماذا بك؟؟

-أستطيع الحضور؟؟

-نعم تستطيع، فدورة المخاطر لجميع الموظفين.

هي لمدراء العموم والمشرفين والمراقبين الماليين والمدققين والمدراء التنفيذيين… أعلنت هنا عينيه الكثير من التخوف.

-مالذي يخيفك؟؟

-اسمها؟؟ مخاطر؟؟ يعني فيها مشاكل. ؟؟

-لا لا ابدًا. تحتوي هذه الدورة على الخطوات التي تحتاجها الإدارة لتحديد وتقييم المخاطر واتخاذ قرار بشأن الضوابط والاستجابات المناسبة لها. حيث تتناول هذه الدورة أهمية وضع المخاطر في عين الاعتبار في مجالات مختلفة في الإدارة لدينا. سنبدأ بشرح أساسيات إدارة المخاطر وتأثيرها على الإجراءات التشغيلية ثم كيفية تحديدها ثم سنقوم بتقييم المخاطر وتوقع المشاكل قبل أن تصبح تهديداً وسنُدرب على تحسين عملية اتخاذ القرار القائم على المخاطر وربطها بالتكاليف المحتملة وعملية تخطيط الأعمال وأخيراً سنقوم بتحديد مجموعة من التقنيات التي يمكن استخدامها لدعم الإدارة في اتخاذ القرارات المناسبة وعلاج المخاطر من تجنب، نقل، تقليص وقبول.

      رأيت حيرة وقلقاً وتردداً. فأضفت.  إدارة المخاطر هي منهجية تأهّب واستعداد لتفعيل الاستقصاء والتخمين وهي لعبة مع الخيال كما تتضمن الكثير من دراسة الحالات في ادارتنا ومجالات العمل المختلفة…

-لا لا أريد. كلامك مخيف.

– أشعل خيالك وجرّب. هيا ادخل القاعة.

-طيب. هل سيتغير مسمّاي الوظيفي بعد هذه الدورة !؟

-لا لن يتغير ولكن سيضاف لك لقب ودور في ادارتك. وستكون ممثلاً عن المخاطر. أو مسؤولاً ومرشداً في إدارة المخاطر.

  لم أحب فكرة ارغامه ولكن قلت له آمره… وبنبرة حازمه قوية هذه المرة.

  • هيا ادخل القاعة… واجلس. سأبدأ الان…!

        خضع مرشد على مضض وجلس على أحد المقاعد. وبدأت في الشرح. رأيت علامات الفهم أو التقبل بادية عليه، وبدأ باستيضاح المعلومات، وتفاعل معي ومع الحضور وكان حاضر البديهة وسريع الاستجابة وفي ورشة العمل أبهرني بأداء فوق المتوقع وبدأ بتفسير المستغلق لأصدقائه، وكان يبدي استعداداً ويبادر بحلول تساعد على اغلاق المخاطر القائمة لديهم، كان سعيداً ومرحاً ومتحمساً.

     في نهاية البرنامج كالعادة. طلبت تقييم الدورة على الرابط الالكتروني لاستبيان التقييم. وعاينت ما كتب مرشد. كان مسروراً ولديه انطباع جيداً عن المادة المقدمة في الدورة. لاحقاً علمت من مدراءه انه يتباهى بإنجازه وتمكّنه من مهامّه، فعلى مكتبه تنهار اكوام المعاملات، وهو الأسرع والأفضل في القضاء عليها، علمت انه المفضل دائماً لإنهاء اي معاملة لها متعلقات، فهو نبيه، أصيل، مخلص، ملتزم، أمين ويتميز بالالتزام في مواعيده، ويتميز بتقديم الاقتراحات لتطوير العمل، والاهتمام بشؤون الموظفين الآخرين وانخفاض نسبة تغيبه عن العمل.

      سرني ان وجدت علامات الرضا الوظيفي مجتمعة في شخصه. فالرضا الوظيفي هو مجموعة من الأحاسيس الجميلة (القبول، والسعادة، والاستمتاع). وبحثت عما يجذبه لعالم المخاطر، فهو مؤهل نفسياً للعمل بها، ومن هنا ارتكزت على بناء شخصيته، فهو يحتاج لما يشعره دوماً بأهمية دوره وبمن يذكره بقيمة مساهمته في نجاح ادارته وبما يرفع تقديره الذاتي كما اوصى ماسلو في هرم الاحتياجات. دمجت هذا بما حدث مؤخراً من تطورات في الموارد البشرية التي بدأت فعليا بتفعيل دور علم النفس واستخدامه في إرضاء وتحفيز الموظف وجعله ينتج بأقصى طاقته.

بحثت عن تقنيات التحفيز الشخصي في العمل فكان منها تحفيز النمو والتعلم والتطوير الشخصي. أعود هنا لفكرة الابتكار وفكرت في خطة وطريقة لجذبه معي لعالم المخاطر فكنت اعرض عليه كل ما يردني من سجلات بغرض مناقشته تارة. وبغرض اخذ نصحه تارة. وبغرض تلقينه شيء من مهارة تقييم ومعالجة المخاطر تارة… فشعور الموظّف بوجود زملاء ومدراء بحاجة إليه لمناقشة أي أمور تتعلّق بالوظيفة أمر يساهم في شعوره بالسعادة والرضا من الوظيفة ويزيد من تحفيزه.

      راهنت على نجاح خطتي معه. وكل ما شعرت به هو ضرورة إلزام المدراء ببرنامج التحفيز النفسي للموظفين وذلك ليلهمهم ويساعدهم على تقديم أفضل ما لديهم للعمل ولمواصلة العطاء وزيادة مستواهم ورفع كفاءة إنتاجهم كمًّا ونوعاً.

يحتاج الموظفون إلى حوافز العمل والتي تتمثل في الكسب المادي، أو في الكسب المعنوي والذي يتمثل في التقدير، أو كلاهما معاً لإشباع حاجاتهم. وهنا يجب التوضيح أن الحوافز يجب أن تركز على مكافأة العاملين عن تميزهم في الأداء، وأن الأداء الذي يستحق الحافز وهو أداء غير عادي بالفعل.

     مرت الشهور وبدأت ادارة المخاطر وقتها بوضع قواعدها في إدارة مرشد بإشراف من مدير إدارة الجودة والتخطيط، وبدأ التدريب على اتقان ادواتها يثمر نتاجه. اتصلت بمدير الجودة لمناقشة بعض مستجدات سجل المخاطر معه… وطلبته تعيين ممثل في ادارته للمخاطر.

– فقال: تم تعيين ممثل جديد معنا للمخاطر وهو جاهز لأي تعامل معك وقد أسس فريقاً وقاده للآن بكل حرفية واتقان.

– قلت: له حسناً. ممتاز جداً. سانتظره بعد ربع ساعة لأبدأ معه التأسيس لأعمالنا المشتركة القادمة.

بعد المحادثة. وبعد دقائق.

طرق باب مكتبي أحدهم.

-قلت: أهلا. تفضل. الباب مفتوح. مين…؟

سمعت صوتاً مألوفاً مكرراً لمقولاتي في دورة المخاطر:

 -المخاطر والمجازف مرشد. من فريق المخاطر وعالم الخيال …!

ودخل مكتبي بابتسامه عريضة وخطوة واثقة.

 ومابين لحظة صمت ولحظة احتجتها للخروج من دهشتي.

-قال هو مرحبا بنفسه.

 أهلاً بمرشد! مرشداً في إدارة المخاطر.

 

 

بقلم/ أ. إيمان أسامة شرف

أخصائية جودة إدارية 

( مدقق داخلي )