ألا يستحق هؤلاء اهتماماً أكبر ؟!
بالطبع لا يستطيع أي طبيب أن يتذكر كل مرضاه لكن بلا شك هناك من المرضى من يعلق بالذاكرة. فما زلت أتذكر زيارة أم محمد الأولى لعيادتي قبل سنتين تقريباً. لقد كان بصحبتها ابنها محمد الذي كان ومازال بها حفياً. لم يكن محمد وهو الشاب المثقف ليسكت عن وضع والدته المتدهور صحياً ونفسياً. لقد خاضت والدته ببسالة فائقة معركة طاحنة ضد مرض سرطان الصدر دامت لخمس سنوات. وقد استطاعت أن تتعايش وتتكيف مع انتكاسات المرض وجراحاته وأدويته الكيماوية حتى سنتين مضت. فمنذ بدأت أم محمد جلسات العلاج الكيميائي الأخير وحالتها النفسية في تدهور مستمر، وهي مصرة على إيقاف هذا العلاج حتى لو خسرت الجولة الأخيرة في معركتها ضد مرض السرطان. لقد أصبحت حياتها جحيماً لا يطاق لدرجة أنه لم يكن ليرقأ لها دمع ولم يكد يغمض لها جفن لا ليلاً ولا نهاراً، وكذلك لم تكن معدتها تقبل زاداً ولذا فقد نحل جسدها. لقد اعتزلت أم محمد الناس وانطوت في غرفتها تغالب أحزانها. وأكثر ما كان يعتصر قلبها ألماً أنها فقدت الدافع والطاقة والتركيز الكافي لكي تصلي وتتعبد لله كما اعتادت ذلك في سالف حياتها.
لم يقتنع محمد أن أعراض الإكتئاب الحادة التي أصابت والدته أمر طبيعي أو ضربة لازب لابد أن يكابدها كل مريض بالسرطان. ولقد أكدت الدراسات العلمية ما آمن به محمد فغالبية مرضى السرطان لا يعانون من هكذا أعراض. فمرض الإكتئاب الحاد يصيب قرابة 25٪ من مرضى السرطان إما بسبب صدمة الإصابة بمرض خطر كالسرطان أو صعوبة التكيف مع آلامه أو التنبؤ بمساره، وفي أحيان أخرى بسبب طبيعة ومكان الورم(يزيد معدل مرض الاكتئاب في حالة الأورام الدماغية أو التي تنتشر للدماغ، وأورام البنكرياس…الخ).وفي حالة أم محمد كان السبب غالباً في نوعية العلاج الكيميائي الذي بدأت في تناوله مؤخرًا، ومعروف أن بعض العلاجات الكيميائية والهرمونية قد تؤدي لاضطراب في نواقل عصبية دماغية لها علاقة بضبط المزاج ومنها مادة السيروتونين.
للأسف الشديد فإن الحالات المشابهة لحالة أم محمد كثيرة. وما يقال في مرض السرطان يسري على غيره من الأمراض الباطنية المزمنة كأمراض القلب والكبد والكلى والدماغ وغيرها؛ و التي تتميز بتكرر الانتكاسات وكثرة المضاعفات وتأثيرها البالغ في حياة المصاب بها بما في ذلك نوعية وتعقيد علاجاتها الدوائية والجراحية وما تتطلبه من تنويم متكرر بالمستشفى.
ولك عزيزي القارئ أن تتخيل حال فتاة في عمر الزهور تصاب بمرض الذئبة الحمراء الذي يغزو كلاها وينتهي بها المطاف بعد بضعة سنوات من المعاناة أن تضطر لزيارة المستشفى ثلاث مرات أسبوعياً لتمكث بضع ساعات تحت جهاز الغسيل الكلوي. أي حياة تعيشها هذه الفتاة؟ ألا تستحق منا كأطباء ومستشفيات وجهات صحية عليا أن نوفر لها الرعاية النفسية والاجتماعية التي تكفل لها حياة أفضل. لقد عاينت في كندا حيث تدربت بعضَ هؤلاء المرضى وقد استعادوا بهجة حياتهم الشخصية والاجتماعية بل عاد بعضهم لوظيفته رغم أنه مستمر في استخدام جهاز الغسيل الكلوي وقت نومه كل مساء، لكن في بيته وليس في المستشفى، وبالطبع تحت إشراف ودعم من فريق أمراض الكلى المشرف على علاجه.
في بلدنا ولله الحمد والمنة، تُنفق أموال طائلة على الصحة، لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم يصرفون قرابة 15٪ من ميزانية الصحة على خدمات الصحة النفسية والاجتماعية بينما في غالب الدول العربية لا تتجاوز النسبة 2٪. وبينما نهتم أحياناً بشراء أحدث موديلات الأجهزة الطبية تجدهم هناك في الدول المتقدمة ربما يكتفون بموديل أقدم طالما لم يختلف جوهرياً عن الطراز الأحدث، ويوفرون هذا المال لتوظيف ممرضة مؤهلة تلعب دور المنسق الصحي وهمزة الوصل بين هؤلاء المرضى وبين أطباءهم الباطنيين والنفسيين الجسديين على حد سواء، وكذلك دور الداعم النفسي والاجتماعي لهؤلاء المرضى المزمنين في مواجهة تغول المرض وتعقد الخدمات الصحية التي يحتاجونها.
إن هذه الفئة المنسية رغم ضخامة أعدادها وتكاثرها مع الوقت؛ والتي تعاني من عدة أمراض باطنية مزمنة ويصاحبها ويفاقمها بعض الأمراض النفسية وخصوصاً الاكتئاب والقلق، تشكل بلا شك التحدي الأكبر للمهتمين بالقطاع الصحي في القرن الواحد والعشرين. وبالجملة فإن الدراسات العلمية الرصينة تجمع على أن تكثيف الاهتمام بالصحة النفسية والاجتماعية لهؤلاء المرضى لن يحسن من صحتهم وجودة الحياة التي يعيشونها فحسب وإنما سيقلل كذلك من النفقات الصحية ككل.
أعود لقصة أم محمد ( والقصة حقيقية مع تعديل لبعض التفاصيل حفاظاً على سرية المريضة)، فبفضل من الله استجابت بسرعة لمضادات الإكتئاب وجلسات العلاج النفسي القصيرة الأجل وعادت الطمأنينة لحياتها من جديد. وفي مقابلتي الأخيرة لها منذ بضعة شهور لم تكن أم محمد مهمومة بالورم أو الاكتئاب كما كانت من قبل. ولئن تناقشنا لبرهة من الوقت في إيقاف مضاد الاكتئاب تدريجياً فإن نقاش أحوالها العائلية المضطربة قد طغى على وقت الجلسة. فمع تحسن حالتها الصحية والنفسية عادت أم محمد للاهتمام بعائلتها لكنها شعرت بالمرارة عندما اكتشفت بعض المستجدات العائلية والقرارت الأسرية التي انفرد زوجها وأبناؤها في اتخاذها لحظة انكفائها على نفسها لبضع سنين وقت اشتداد المرض. يا ترى هل ستتكيف أم محمد وأسرتها مع عودتها لدورها القديم في الأسرة؟ تلك بلا شك فصول لمعاناة أخرى لهؤلاء المرضى ولأسرهم تستحق أن نفرد لها مقالاً آخر بإذن الله.
[…] ألا يستحق هؤلاء اهتماماً أكبر ؟! […]
[…] ألا يستحق هؤلاء اهتماماً أكبر ؟! […]
[…] ألا يستحق هؤلاء اهتماماً أكبر ؟! […]
[…] ألا يستحق هؤلاء اهتماماً أكبر ؟! […]