تعج وسائل الاعلام و المرجعيات العلمية بالعديد من المقالات والتقارير التي تتحدث حول آليات تمويل الخدمات الصحية. فمثلا، تمول الدول عالية الدخل (عادة تصنف أنها دول متقدمة)خدماتها الصحية عبر الضرائب أو عن طريق الاقتطاع من الراتب أو غيرها من الطرق التي تشترك في كون الناس هم مصدر التمويل. أما الدول محدودة الدخل (عادة تصنف أنها دول تحت التطور أو نامية) فإن المعونات الخارجية من أهم مصدر تمويل خدماتها الصحية.  للأسف أن الحديث حول تمويل الخدمات الصحية في دول الخليج العربي ظل محدودا. ولعلي في هذا المقال أن اتطرق لبعض خصائص دول الخليج التي اثرت في تمويل خدماتها  الصحية.

تتفرد دول الخليج العربي في تمويل خدماتها الصحية بخصائص عدة تشترك في بعضها مع خصائص الدول المتقدمة، كما تشترك في الخصائص الأخرى مع الدول التي تصنف انها دول في طور النمو. فمثلا تشترك دول الخليج العربي مع الدول المتقدمة في كونها دولا عالية الدخل حسب تصنيف البنك الدولي، كما تشترك دول الخليج العربي مع الدول محدودة في كون مصدر تمويل خدماتها الصحية مصدر خارجي. فتمول الدول محدودة الدخل خدماتها الصحية بشكل كبير من مصادر خارجية كمعونات الدول المتقدمة بينما تمول دول الخليج العربي خدماتها الصحية من مصدر خارجي وناضب في الوقت نفسه ”البترول”. كما أن معظم الدول الخليجية تشترك في معاناتها مع الدول محدودة الدخل في في عدم كفاءة أنظمتها وأجرائها الادرية بما في ذلك الأنظمة الصحية. هذه الحقيقة لا تتعارض ابدا من كون دول الخليج العربي من أكثر الدول العربية استثمارا في مواردها البشرية حسب تقارير الأمم المتحدة المتعلق بالتنمية البشرية الصدارة لأخر خمس سنوات.

كما تتمير دول الخليج العربي بخصائص فريدة تختلف فيها عن خصائص دول مرتفعة الدخل أو محدودة الدخل. فمثلا تتميز معظم دول الخليج العربي عن غيرها من الدول كون عمالتها الوافدة تصنف على أنها أقلية، كما تصنف تلك العمالة على انها أكثرية عن النظر لما تشكله من نسبة مرتفعة من المجموع الكلي للسكان ( تشكل العمالة الوافدة أكثر من نسبة 80% لدى بعض الدول الخليجية كما تشير بعض التقارير العمالية الصادرة من الأمم المتحدة).

لا شك بأن تمازج خصائص دول الخليج بين الدول مرتفعة الدخل والدول محدودة الدخل انعكس بشكل مباشر على الخصائص التمويلية لدول الخليج العربي على النحو التالي:

أولا: تشترك دول الخليج العربي مع الدول المتقدمة في أن الإنفاق الحكومي على الصحة يشكل النصيب الأكبر من مجموع الإنفاق العام على الصحة. فإحصاءات منظمة الصحة العالمية تدل على تقارب بين دول الخليج العربي والدول عالية الدخل في نسبة الانفاق الحكومي من الميزانيات الصحية. فتشكل النفقات الحكومية على الصحة لدول الخليج العربي أكثر من 70% من مجموع نسبة النفقات الصحية بينما تشكل نسبة الإنفاق الحكومي للدول عالية الدخل 62.2% من مجموع الإنفاق الحكومي. لكن هذه النسبة لا تعني إطلاقاً أن دول الخليج العربي تنفق أعلى على الصحة مما تنفقه الدول عالية الدخل. فمثلا وحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية ، فإن نصيب الفرد من الإنفاق على الصحة إجمالاً لدول الخليج العربي بحدود 857 دولاراً بينما تنفق الدول عالية الدخل بحدود 2609 دولارات. لكن نصيب الفرد من الانفاق على الصحة لدول الخليج اجملا أعلى مما تنفقة الدول فوق متوسطة الدخل أو دول الشرق الأوسط.

في الجانب الاخر فقد قاد ارتفاع نسبة العمالة الأجنبية في دول الخليج العربي من مجموع السكان العام لان تستخدم دول الخليج عدة طرق للحد من استخدام العمالة الأجنبية لخدماتها الصحية الحكومية، خصوصا وأن دول الخليج العربي تقدم خدماتها الصحية مجانا لمواطنيها. بعض هذه الطرق أدت إلى ارتفاع الدفع المباشر للخدمات الصحية (كاش) من مجمع نفقات القطاع الصحي الخاص. هذه الخاصية تشترك فيها دول الخليج مع الدول محدودة الدخل وهي الخاصية الثانية من خصائص دول الخليج العربي. فمثلا تتجاوز  نفقات الدفع المباشر (الكاش) في بعض دول الخليج 50% من مجمل نفقات القطاع الخاص في ظل عدم نضج القطاع الخاص الصحي في مجمل دول الخليجي العربي. 

ثالثا: مازلت نظم تمويل الخدمات الصحية في دول الخليج تحت النمو. فمثلا، لازلت دول الخليج العربي تعتمد بشكل كبير في تمويل خدماتها الصحية على مصدر قابل للنضوب وهو البترول كما اسلفت سابقا (تشكل مدخلولات النفظ أكثر من 80% من مصادر تمويل ميزانيات الصحية). ففي السنوات التي وصل فيها سعر النفط لمستويات متدنية، كانت الميزانية الصحية متدنية أيضاً كما تشير احصائيات منظمة الصحة العالمية.

لا شك بإن بعض الدول الخليجية حاولت استخدام اكثر من طريقة لتمويل خدماتها الصحية من أجل تنويع مصادر تمويل خدماتها الصحية، إلا أنها لم تستقر على طريقة تمويل محددة.فمثلا تمول بعض دول الخليج  العربي كقطر  نفقاتها الصحية – وإن كان بشكل محدود أو جزئي – من دخول الضرائب كضرائب الخطيئة sin taxes (وهي الضرائب المفروضة على القمار والكحوليات والتدخين). لكن بعض دول الخليج العربية كالمملكة العربية السعودية لم تستخدم الضرائب المفروضة على التدخين كجزء من مصادر نفقاتها الصحية، على الرغم من أنها الرابعة عالمياً في استهلاك التبغ حسب ما ذكر احد التقارير الصادر عام 2012.

لكن قد تكون دول الخليج العربي نجحت جزئيا ليس في إيجاد بدائل تمويلية جديدة ولكن في الحد من استخدام الخدمات الصحية الحكومية من قبل العمالة غير الوطنية. فمثلا تبنت دول الخليج العربي استراتيجية شبه موحدة قائما على أن يتحمل أرباب الأعمال دفع تكلفة الرعاية الصحية لموظفيهم، وإن اختلفت كل دولة في السياسات التي إنتهجها لتحقيق هذه الغاية. فمثلا تعتبر المملكة العربية السعودية من اوائل دول الخليج العربي التي الزمت كل شركات القطاع الخاص بالتغطية التأمينة على كل العاملين لديها مما حد بصورة غير مباشرة من استخدامهم الخدمات الصحية الحكومية. كما أن وزارة الصحة الإماراتية متمثلة في إمارة أبو ظبي فرضت على كل أرباب الأعمال ثلاثة برامج للتأمين الصحي: برنامج ثقة (Thiqa) وهو برنامج بالتأمين الصحي على المواطنين، برنامج مستحسن Enhanced)) وهو برنامج للتأمين الصحي لأصحاب المهارات العالية من غير المواطنين، برنامج اساسي ( (Basicوهو برنامج للتأمين الصحي خاص بأصحاب المهن والمهارات المحدود. بينما تبنت كل من الكويت والبحرين سياسة المشاركة في التكلفة العلاجية بين رب العمل والعامل غير المواطن من أجل التحكم في الاستخدام المجاني للخدمات الصحية من قبل غير المواطنين. أما دولة عمان، فيفرض النظام الصحي على العاملين في القطاع الخاص أن يكونوا مغطيين صحيا من قبل شركاتهم. أما حكومة قطر،  فذكرت في خطتها الاستراتيجية الأخيرة أنها بصدد السعي لتغيير نظام اعتماداتها المالية الصحية من الميزانية المجمعةLam Sum)  ) إلى تبني ميزانية مالية تعتمد على قياس الأداء (Performance Budget)، قبل أن تتبنى نظاما صحيا محددا مع انها ستستفيد من تجارب الدول المجاورة.

ختاما لا نستطيع ان نقتصر معانة دول الخليج العربي التمويلية في إيجاد بدائل تمويلية فحسب بل تمتد معانتها في عدم وجود استراتيجيات تسهم في إدارة نفقاتها الصحية وترفع كفاءة استخدامها بالشكل الامثل. فمثلا تعاني معظم الميزانيات الصحية الخليجية من عدم الاتزان بين الصرف على الخدمات الصحية والطلب عليها. لذا فالدول الخليجية بحاجة لبناء علاقة جديدة بين مشتري الخدمة الصحية كخطوة أولى نحو بناء نظام تمويلي مستقر. فوضوح هذه العلاقة بين مشتري الخدمات الصحية ومقدمها سيساعد دول الخليج على متابعة النفقات الحكومية وورفع كفاءة ميزانيتها الصحية. بأعتقادي هذه الخطوه تعتبر خطوة أساسية نحو السعي نحو ايجاد بدائل تمويلية  تضمن لدول الخليج استمرار تمويل خدماتها الصحية  بعيدا عن تقلبات أسعار النفط.

 

د.عبدالوهاب الخميس.