بتاريخ الأربعاء الموافق للتاسع من شهر صفر لعام 1438، ناقش مجلس الشورى التوصيات التالية:

التوصية الأولى) إنشاء أقسام نفسية في المستشفيات العامة، بما في ذلك تخصيص 5% على الأقل من أسرتها كأجنحة تنويم نفسية.

وستساهم هذه الأقسام في توفير فرصة التنويم النفسي لكل مريض محتاج، في جناح صحة نفسية، يفترض ألا يبعد أكثر من 50 كم، على الأكثر من مكان سكنه. ويتم ذلك بتخصيص خمسة بالمائة من أسرة كل مستشفى عام لتكون جناحاً نفسياً مجهزاً، لتقديم خدمة التنويم (المؤقتة) لكل من أصيب بحالات الذهان والهوس والاكتئاب الحادة. الخ. كما تقدم خدمات العلاج المنزلي لبعض الحالات المزمنة. وتقدم هذه الأقسام كذلك خدمات طبية نفسية تكاملية وتخصصية وتعليمية وبحثية، تخدم أقسام المستشفى العام الأخرى، والمجتمع ككل.

ومن المعلوم بأن منظومة علاج ورعاية المصابين بأمراض نفسية حسب المتعارف عليه عالمياً، تتكون مما يلي:

 أ. مراكز الرعاية الأولية في الأحياء : ويتولى فيها أطباء الرعاية الأولية علاج الأمراض النفسية الشائعة والبسيطة، عبر البرامج التكاملية الطبية النفسية، وذلك بالتعاون مع الأطباء النفسيين العاملين في مستشفيات تلك المنطقة.

ب. أقسام الطب النفسي في المسشتفيات العامة.

ج. المصحات/ المستشفيات النفسية المعزولة  : تستخدم كمستشفيات مرجعية تخصصية في كل منطقة، لعلاج وتأهيل بعض الحالات المرضية النفسية شديدة الوطأة، وكذلك لمرضى الطب النفسي الشرعي.

د. مراكز العلاج النهاري والتأهيل النفسي وبيوت منتصف الطريق ودور الإيواء

وقد فصلت في فوائد هذا الأمر في مقال سابق بعنوان  (الصحة النفسية شرط لتحقق رؤية السعودية 2030).

وهذه التوصية الآنفة الذكر سهلة التطبيق، فهي تحتاج فقط لقرار من وزير الصحة لتغيير استراتيجية الصحة، وتحويل ( بعض) النفقات من إنشاء مستشفيات نفسية معزولة جديدة، إلى إنشاء أقسام نفسية في المستشفيات العامة.

التوصية الثانية) تعديل وثيقة التأمين الصحي الأساسية لتشمل علاج جميع الأمراض النفسية، وبلا استثناء. 

ومن المؤسف أن وثيقة الضمان الصحي التعاوني الموحدة الصادرة عن الأمانة العامة لمجلس الضمان الصحي السعودي تحصر النفقات القابلة للاستعاضة أي المنافع من التأمين الصحي “للحالات النفسية الحادة ب١٥ الف ريال كحد أقصى خلال مدة الوثيقة (القسم الثاني في الفقرة ١هـ). كما تستثني وثيقة الضمان الصحي التعاوني الموحدة الحالات النفسية التي لا تستدعي التنويم، اذ يحدد القسم الثالث الخاص بالتحديدات والاستثناءات – أي الحالات التي لا تخضع للتعويض، في الفقرة ١٤ “المعالجة النفسية أو الاضطرابات العقلية أو العصبية ما عدا الحالات الحادة “. والمؤلم في الأمر اننا نجد ان هذه الوثيقة قد ساوت في عدم الاستفادة من التأمين العلاجي بين الحالات النفسية غير الحادة أي الاضطرابات النفسية مع: “الجراحة أو المعالجة التجميلية” (الفقرة ٣) و”الاستجمام وبرامج الصحة البدنية العامة” (فقرة ٦) و”تساقط الشعر أو الصلع أو الشعر المستعار” (فقرة ١٣).

فيعني ذلك أن التأمين الحالي يغطي فقط حالات الهيجان والاضطراب الحاد الذي يعالج عادة في أقسام الطوارىء، وقد يحتاج الي تنويم وعلاج يصل الى بضع شهور.  وبالطبع لن يكفي مبلغ التأمين الزهيد ( 15 ألف ريال في السنة) سوى لتغطية الكلفة العلاجية لبضعة أيام فقط من أيام التنويم الطويلة. فمن سيدفع باقي تكاليف التنويم الباهضة أثناء التنويم؟ ثم تكاليف العلاج بعد خروجه من المستشفى؟ وذلك لأنه سيحتاج لاستمرار العلاج والمتابعة عبر العيادات الخارجية.

وكذلك ما هو الحال بالنسبة للغالبية العظمى من المصابين بأمراض نفسية، ممن يعانون من حالات نفسية لا تستدعي التنويم ، ولكنها تتطلب مراجعة عيادات الطب النفسي، وتلقي العلاج المستمر لسنوات باستخدام الأدوية النفسية المعروفة بغلاء أسعارها، وجلسات العلاج النفسي وأجهزة التحفيز الدماغي..الخ ؟

ولذلك فإن الحاجة ماسة لتعديل وثيقة التأمين الصحي الأساسية لتشمل علاج جميع الأمراض النفسية، وبلا استثناء. وهذا الأمر يحتاج لقرار من مجلس الضمان الصحي السعودي الذي يرأسه وزير الصحة. وسينفع أكثر من مليون سعودي مشمولين حالياً بنظام التأمين الصحي، وكل السعوديين عند تطبيق نظام التأمين الصحي على الجميع في المستقبل القريب.

٣) التوسع في إنشاء مراكز العلاج النهاري والتأهيل النفسي وبيوت منتصف الطريق ودور الإيواء: لتقديم الرعاية طويلة الأمد للمرضي النفسيين المزمنين، وتقليل ظاهرة التشرد بينهم.

وهذه مسؤولية جهات عدة منها الشئون الاجتماعية ووزارة الصحة..الخ؛ ومسؤولية وزارة الصحة تتمثل في تسهيل إنشائها، والموافقة على الإشراف الصحي عليها.

فنظراً لضعف منظومة خدمات الصحة النفسية، واقتصار وزارة الصحة على التوسع فقط في إنشاء المزيد من المستشفيات النفسية، فقد أصبحت المستشفيات النفسية مكتظة بالمشردين، ومن فقدوا المأوى كسكان دائمين، وكثير منهم لا يعانون من حالات نفسية تحتاج للتنويم. وللمعلومية، فإن معظم أسرة مستشفيات الصحة النفسية في السعودية (وقد تصل الى 90%) قد تحولت لسكن مرضى مستقرين نفسياً، لكنهم فقدوا المأوى، وتعذر وجود أفراد عائلة يعتنون بهم. وفي ذلك هدر للموارد من ناحية، وفقدان لحق المريض الذي يعاني من حالات نفسية، ويحتاج الى تنويم في المستشفى. كما أن مستشفيات الصحة النفسية صُممت كباقي المستشفيات، لتكون مكاناً مؤقتاً لعلاج الحالات الحادة؛ وليست مهيأة بحال، لتكون ملاذاً كريماً وسكناً لائقاً للمشردين.

ولكن للأسف عزيزي القارئ، رغم وجاهة الدفاع عن هذه التوصيات أثناء جلسة الشورى الآنفة الذكر، فقد افتفدت التوصية الأولى لصوت واحد إضافي لتصبح نافذة، بينما لم تعرض التوصيتان الثانية والثالثة للتصويت، نظراً لزعم وزارة الصحة أنهما متحققين حالياً أو في طريقهما للتنفيذ!!!

وإذ أقدم خالص شكري وتقديري لفريق مجلس الشورى بقيادة الدكتورة ثريا عبيد، الذي تبنى هذه التوصيات منذ شهور ونافح لإقرارها بكل إخلاص، فإنني أدعو كل المسئولين والمهتمين بالصحة النفسية، لأن يبذلوا الغالي والنفيس لكي تنال الصحة النفسية حقها من الاهتمام في بلدنا الكريم.

والله من وراء القصد