التحفيز .. هل يحتاج إلى أمكانيات ؟

على مدى عقدين من الزمن لم يفارق مخيلتي ذلك المعلم بالصفوف الابتدائية ، وبشاشة اللقاء التي لطالما يحملُها محياه ، ترافقهُ ابتسامة حبٍ دافئة تنسينا رهبة المدرسة وخوفنا القارس ، كنا نصافح تلك السعادة كل صباح وبين ارجاءِ حصته الدراسية ، رغم أن المادة التي يقدمها ذات ماضِ رمادي يسكن اروقة عقولنا كما لو أنها جاثوم من الارقام و فزاعة من الحسابات والواجبات ألا وهي مادةُ الرياضيات ، كان أستاذ جميل جميلاً في طرح المسائل الرياضية ، لتجده يرسمها بألوان الربيع رغم تجهم السبورة السوداء ، ويشعل كامل الصف حماساً وتشجيعاً لحل وفك الطلاسم الرقمية المحيرة ، وقد تعجب حين ترى حماسنا وتسمع صراخنا الذي يعبر بين الفصول والممرات حين تعلم أن الجائزة مجرد فول سوداني لا تتجاوز قيمته نصف ريال والذي لا تخلوا منه كل بقالة في مدينتنا الصغيرة !

سنين مضت ومازال طعم التحفيز مرتبطاً بمذاق الفول السوداني بين طيات ذاكرتي ، وقد أدركت ان التحفيز ليس مرهوناً بقيمته المادية للتشجيع سواء لطلبة علم أو موظفين بل بالقيمة المعنوية ومدى استجابة الانسان لتلك القيمة وسعادته بها !

حين أتأمل  تلك اللحظات  وذلك السباق بين الافكار والنبضات وجدت أن الامر أكثر من مجرد فول وحلوى بل ما يغلفها من معنويات وألوان عاطفية مبهجة ترافقُها ابتسامة شكر واشادة معلم وتحفيز مُحِب !

ندرك جميعاً أن كل شخص منا داخله تلك الغريزة المتعطشة للتقدير والاحترام والنقش الذي يلازم جبينه “أهتم بي” إلا أن العديد من المنظمات المحلية تغفل هذه الغريزة الانسانية لتجدها في سبات عميق عن أساليب التحفيز الحديثة ، مهمشة ً حقيقة فرضت نفسها وباتت من مسلمات الادارة الحديثة وجسراً لايمكن تجاهله لتحقيق  النجاح والتميز .

لو تأملنا حال تلك المؤسسات الراكدة في خدماتها ومستوى انتاجيتها سواءً كانت حكومية او القطاعات الخاصة لوجدنا أن التحفيز لا يمثل اي جدوى واقعية حسب منظورها الضيق نظراً لارتباطه في مداركها وخططها الروتينية الباهتة بميزانيات ضخمة من الاموال والمكافئات النقدية والتي قد تحطم كاهل المنظمة وتجعلها في خانة اقتصادية حرجة لتكتفي بسياسة العقوبات الصارمة.

من المثالية أن نتجاهل دور المحفزات المادية وأثرها في تشجيع الموظف ، ولست بقصد تهميشها بل عدم التركيز عليها وتمحور سياسة المنظمات حولها ، بل الاهتمام بإثراء الادارات والمؤسسات تجاه موظفيها بالعديد من طرق التشجيع ، وابتكار الأساليب الفعالة للهدف ذاته لاسيما في المنظمات التي يغلب على منهاجها الاداري طابع الروتين وينهش مفاصلها صدأ البيروقراطية في الثواب والعقاب ، وكل ذلك سيعود بالنفع على انتاجية الموظف وتحسين جودة الخدمة المقدمة من قبل المؤسسة ، ولنا فيما  قامت به المنظمة الامريكية “غالوب” دروساً كثيرة والتي تختص بالاستشارات الإدارية والموارد البشرية حيث اجرت دراسة في شهر ابريل عام 2015  لقرابة سبعة آلاف  موظف من مختلف القطاعات والشركات لبحث سبل التحفيز وزيادة الانتاجية وكانت النتائج أن 69% ممن وجد عليهم الالتزام والانخراط  في العمل لتحقيق أهداف المنظمة وجدوا أن اداراتهم قامت فعليا بإشراكهم ودعم مساهمتهم في وضع الاهداف لتحقيقها !

هذه النتائج تفتح المجال للتوسع بآفاق التحفيز ومفاهيمه لدى مؤسساتنا ، لنقف كلنا بشفافية أمام اسئلة لا يمكن تجاهلها ؛ يا ترى كم لدينا من المنظمات والشركات التي يساهم موظفوها في وضع اهدافها ورسم خارطة اداءها نحو الارتقاء بالمنتجات والخدمة المقدمة؟ ، لو قمنا بأجراء دراسة على النازحين من بيئات عملهم السابقة رغم الحاجة الماسة لتلك الخبرات والكفاءات، فهل ستكون قلة المحفزات المالية او ضعف الموارد وحدها الاسباب؟

أيً ما كانت الإجابة فهي الحقيقة التي لابد من مواجهتها والتعامل معها بحكمة وبصيرة حتى لا يتعثر واقع مؤسساتنا الوطنية دون تحقيق الرؤية الشاملة للارتقاء بصحة الفرد والمجتمع والوطن بأسره .

 -محمـود عطية الحارثي.