بقلم / د. عبد الوهاب بن عبد الله الخميس
مجلة الجوده الصحية _ دينا المحضار 

 

 

صدرت خلال الفترة القريبة الماضية موافقة ملكية كريمة مبدئية لبداية رحلة طويلة لقطاع الصحة. هذه الرحلة ستتم من خلالها إعادة العلاقة بين مختلف الخدمات والقطاعات الصحية. فمثلا ستتم خلال هذه الرحلة إعادة رسم علاقة هذه القطاعات الصحية المختلفة مع وزارة المالية من ناحية آلية اعتماد الميزانيات الصحية. وقد تضمنت الموافقة ما يلي: أولا: تأسيس شركة حكومية قابضة وخمس شركات تابعة لوزارة الصحة (ستكون شركة في المنطقة الوسطى وشركة في الغربية وشركة في المنطقة الشرقية وشركة في المنطقة الشمالية وشركة في المنطقة الجنوبية). ثانيا: تأسيس برنامج للضمان الصحي التعاوني وشراء الخدمات الصحية يتبع وزارة الصحة ويعمل مع الجهات المعنية في وضع تفاصيل البرنامج ثم عرضه على المجلس (ما يعني أن الموضوع في البداية ولم يتم اعتماد صيغة نهائية بعد كما اعتقد البعض). ثالثا: إعطاء الصحة العامة أولوية في كل الأنظمة والتشريعات لمكافحة الأمراض الوقائية ومنها الصحة في كل السياسات ووضع آلية لتطبيق ذلك (يتطلب إعادة كتابة السياسات الصحية التي تدعم هذا التوجه). فالقرار أعطى موافقة مبدئية وتوجها عاما على أن تتم الموافقة النهائية بعد عرضه مرة أخرى حين انتهاء الجوانب التفصيلية. ما صدر بمنزلة إعطاء توجه ومسار لما سيسير عليه القطاع الصحي وليس فقط وزارة الصحة وإعادة ربط الميزانيات الصحية وآلية اعتمادها. فالقرار أعطى توجها واضحا إلى أهمية فصل مقدم ومشتري الخدمة دون الخوض في التفاصيل التنفيذية لتحقيق هذه الغاية. ومع ذلك لا شك بإيجابية تأسيس برنامج للضمان الصحي التعاوني وشراء الخدمات الصحية على مستقبل تقديم الخدمات الصحية. هذا الفصل بين مشتري ومقدم الرعاية الصحية سيحدث نقلة نوعية في نظام اعتماد الميزانيات الصحية من ميزانيات تشجع على الهدر المالي إلى ميزانيات مبنية على مخرجات ومعايير حقيقية ووفق أولويات محددة. وقد سبق أن نشرت أكثر من مقال علمي دعوت فيه إلى الانتقال من نظام الميزانيات الحالي line item budget وهو نظام يشجع على الهدر المالي إلى نظام أكثر شفافية ويدعم النظام الرقابي والمحاسبي. فمثلا نمط الميزانيات الحالي لا يربط بين زيادة الاعتمادات الوظيفية وبين تطوير مستوى الخدمات المقدمة بسبب غياب الربط بين الاعتماد المالي وجودة الخدمات المقدمة. فمثلا عندما زاد عدد مراكز الرعاية الأولية من 1905 مراكز صحية إلى قرابة 2259 مركزا خلال ثلاث سنوات بين عامي 1432 و1435، لم يشعر المواطن بتغيير حقيقي في مستويات الخدمات الصحية المقدمة له من مراكز الرعاية الأولية. فما زال عديد من مراكز الرعاية الأولية يفتقر إلى تقديم الخدمات الأساسية من خدمات المختبرات والأسنان والأشعة، فضلا عن طبيب الأسرة المتخصص، بل أصبح الحصول على نتائج المختبرات يتطلب أكثر من شهر دون مبرر حقيقي. هذه الحقائق تعانيها المدن الرئيسة كمدينة الرياض، ولا شك أن الواقع أسوأ في المناطق الريفية. كما أن هناك ضعفا في تأهيل الأطباء والفنيين والأخصائيين في مجمل مراكز الرعاية الأولية. النمط الحالي للميزانية line item budget لا يمكِّن صانع القرار من الاستثمار في تطوير مستوى الخدمات الصحية لأن تطوير الخدمات “الجودة” لا يلقى درجة الاهتمام التي يلقاها تشييد المباني. فأرقام التشييد يمكن حسابها في ميزانيةline item budget بينما أرقام التطوير ورفع الجودة يصعب قياسها. هذه الأسباب وغيرها دفعت البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية لإعادة النظر إلى مقياس النظام الصحي بحيث أصبح قياس كفاءة الأداء من أهم مخرجات أي نظام صحي (وسبق أن تناولت الحديث عن هذه النقطة في أكثر من مقال). فلم تعد العناية بكفاءة الأداء خيارا، بل ضرورة لكل نظام صحي. بل إن نظام الميزانية الحالية line item budget من صور الميزانيات التي لا تؤيدها منظمة الصحة العالمية. فمثلا ركزت المنظمة في اجتماعاتها لدول منطقة الشرق الأوسط على دعم المحفزات لرفع كفاءة أداء النظم الصحية لدول المنطقة، بل إن وجود حوافز تعزز كفاءة الأداء هو ما تشجعه المنظمة خلال الورش واللقاءات العلمية التي أقامتها خلال السنوات القريبة الماضية. أعتقد أن الانطلاقة التي نتوقعها خلال الفترة المقبلة ستحتم على العاملين في برنامج التحول الوطني أن يعملوا ليل نهار من أجل الوصول إلى تفاصيل نظام الشركات والآليات التي سيتم على ضوئها شراء الخدمات الصحية لأن ما تم حتى هذه اللحظة مجرد موافقة مبدئية ويتوقع خلال الفترة المقبلة أن يتم إعطاء تفاصيل من قبل القائمين على التحول الوطني الصحي قبل إقرار الصورة النهائية من قبل مجلس الوزراء وقبله مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية. لذا فالفترة المقبلة ستشهد التحدي الأكبر من إعداد تفاصيل استراتيجية شراء الخدمات الصحية، حيث يتم تحديد من سيتولى شراء الخدمات الصحية؟ هل ستكون وزارة المالية أم وزارة الصحة؟ وكيف سيتم شراء الخدمات الصحية لدى الوزارات الأخرى؟ وما المحفزات لزيادة كفاءة الشركات مستقبلا؟ وما الأسس التي ستبني عليها عملية شراء الخدمات الصحية في ظل إقرار الضمان الصحي التعاوني على المواطنين؟ وهل ستتم عملية الشراء عبر مشتر واحد أم من أكثر من مشتر؟ وخلافه. كما ستشهد الفترة المقبلة إيضاح الصيغة، التي ستتم في ضوئها عملية شراء الخدمة والآلية التي سيتم في ضوئها تطبيق الضمان الصحي التعاوني. كما أن الفترة المقبلة ستشهد وضع استراتيجيات محددة لكيفية التعامل مع موظفي الوزارة من أجل تغيير نظرة السلبية لدى البعض نحو التحول في القطاع الصحي من نظرة تشاؤمية وقد تهدد مستقبلهم الوظيفي إلى نظرة إيجابية وفرصة للتميز والإبداع. الخلاصة أن ما صدر بمنزلة تحديد بوصلة مسار القطاع الصحي وتبقى التفاصيل الأخرى المهمة هي التحدي الأكبر، التي ستحدد وتحكم على المسار بوضوح أكبر.