بقلم/ سعود بن هاشم جليدان

الصادره من صحيفة الاقتصادية

مجلة الجودة الصحية_ دينا المحضار 

 

 

 

الاقتصاد الصحي أو اقتصاديات الصحة فرع من علم الاقتصاد المهتم بالتفاعلات والمتغيرات الاقتصادية لاستهلاك وإنتاج الخدمات والمنتجات الصحية والاستثمار فيها. وقد بدأ الاهتمام بهذا الفرع من العلوم الاقتصادية منذ نحو نصف قرن. وازداد الاهتمام بهذا المجال لأسباب متعددة، أبرزها التطور الكبير في الخدمات والمنتجات الصحية، وتصاعد الإنفاق عليها، والتدخل الحكومي والخيري المكثف في المجال الصحي حول العالم، والتكاليف الاقتصادية المرتفعة؛ لتوفير خدمات صحية شاملة لجميع السكان، والاهتمام العالمي المتمثل في الاتفاقيات وجهود المنظمات الأممية في الشؤون الصحية، وارتفاع أهمية الإنفاق الصحي في الناتج المحلي، والإنفاق الحكومي وميزانيات الأسر.
يتصف الاقتصاد الصحي بارتفاع مستويات المخاطر الاقتصادية الصحية للأفراد والمجتمعات، والآثار المتعدية أو الخارجية للأمراض، خصوصا المعدية منها، والنقص الكبير في المعلومات لدى مستهلكيها، والمهارات المرتفعة المطلوبة للممارسين الطبيين التي تحول دون التغيرات السريعة في حجم العمالة الصحية، ووجود أطراف ثالثة أهمها الأطباء وشركات التأمين، والحاجة الكبيرة إلى تنظيم وتقنين القطاع الصحي؛ للحفاظ على مصالح المنتجين والمستهلكين، وخفض النفقات، وتحقيق الأمن الصحي للمجتمع كله.
ترتفع حالة عدم اليقين في الخدمات الصحية؛ بسبب صعوبة تقدير نتائج العلاج والتطبيب من مريض إلى آخر، ومن مستشفى إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، وكذلك صعوبة تقدير التكاليف سواء على مستوى الأفراد أو المستويات الوطنية. ويرى عديد من المختصين، أن الإنفاق على الرعاية الصحية يمكن أن يكون استهلاكا لهذه الخدمات، وفي الوقت نفسه استثمارا في صحة ورؤوس الأموال البشرية. ويقود الاهتمام بالصحة ورعايتها إلى زيادة إنتاجية الأفراد والمجتمع كله، إضافة إلى مساهمته في زيادة دخول ورفاهية وأعمار الأفراد والشعوب. ويمكن بكل وضوح ملاحظة أن الأمم التي تنفق أعلى على الصحة تتصف بالثراء، كما أن الأثرياء يستطيعون زيادة الإنفاق على صحتهم. ويلاحظ في بداية المراحل التنموية للأمم زيادة كبيرة في معدلات النمو، التي يعود جزء كبير منها إلى تحسن الرعاية الصحية التي ترفع قدرات الأفراد على العمل والتحصيل العلمي، كما تقلل من الإجهاد وأيام المرض لدى القوى العاملة، ما يرفع إنتاجية القوى العاملة.
يعتبر تحديد مستوى الرعاية الصحية الأمثل من أصعب القضايا للأفراد والمجتمعات. ويبدي المرضى وكبار السن ومرتفعو المخاطر الصحية استعدادا أكثر من المجتمعات – خصوصا الأصحاء والشباب – للإنفاق على رعايتهم الصحية، وهو ما يتسبب في إشكالات وتجاذبات حول القضايا الصحية. ونتيجة لهذا، ومع اختلاف الأنظمة والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، نشأت نماذج كثيرة للرعاية الصحية حول العالم. فهناك دول تركز على تقديم الرعاية الصحية العامة بدرجة أكثر، بينما تسعى بعض المجتمعات إلى تحميل السكان معظم تكاليف الرعاية الصحية وترك الأسواق لتوفيرها. تظهر في بعض الدول نماذج تلزم الأفراد بالمشاركة في تحمل تكاليف الرعاية الصحية مع الحكومات. وتطبق كثير من الدول خليطا من السياسات التي توفر الرعاية الحكومية أو المدعومة حكوميا، والرعاية الصحية الخاصة، بينما يشتهر عدد من الدول الأوروبية بالأسلوب التضامني في تقديم الخدمات الصحية، ويلزم الجميع بالحصول على التأمين الصحي. ويحاول عديد من دول العالم كبح جماح تصاعد تكاليف الرعاية الطبية، من خلال فرض قيود شديدة على تسعير الخدمات الصحية والأدوية. وترى بعض المجتمعات ضرورة منع التربح الفاحش من تقديم الخدمات الصحية، ولهذا لا تسمح إلا بالمؤسسات الصحية غير الهادفة للربح، ولكنها تسمح بأن تدار بإدارة خاصة.
نجحت بعض المجتمعات في رفع كفاءة الخدمات الصحية بتكاليف معقولة، من خلال التركيز على الصحة الوقائية أكثر، والعمل على خفض المخاطر الصحية الناتجة، والمرتبطة بالعادات والتصرفات والأوضاع الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، كالفقر، والتهميش، والتمييز، والتدخين، والكحول، والمخدرات، وتدني ممارسة الأنشطة البدنية، والتغذية الخاطئة، والجريمة، وممارسات الأعمال، أو التلوث، أو تفكك الأسر، أو أي عادات وممارسات سيئة.
يصاحب تقدير المتغيرات الاقتصادية في المجال الصحي بعض الصعوبات، فمثلا قد تكون مستويات الطلب على الرعاية الصحية مبالغا فيها؛ بسبب الدعم الذي يوفره المجتمع، أو تحمل الأفراد جزءا من تكلفة العلاج لتمتعهم بالتغطية التأمينية. وينتج عن هذا ارتفاع التكاليف الحدية عن المنافع الحدية، وهو ما يخفض العائد على النفقات الصحية.
من ناحية أخرى، فإن عدم تماثل المعلومات لدى مستهلكي الرعاية الطبية “المرضى” مع مقدميها يقود إلى المبالغة في تقديم الخدمات الطبية في القطاع الخاص الهادف للربح، وخفض خدمات الرعاية الصحية في القطاعات الحكومية الساعية إلى خفض التكاليف، التي قد تعاني سوء الإدارة، أو تسرب وغياب المهارات الطبية.
إن زيادة الاهتمام والإنفاق وتطوير الرعاية الصحية والاقتصاد الصحي بوجه عام، ليست مجرد عبء على الاقتصاد كما يراها البعض، ولكنها تولد فرصا اقتصادية تعزز معدلات النمو المستدام، كما توفر وظائف جيدة لعدد كبير من القوى العاملة، وتسهم في زيادة رفاهية المجتمع. إضافة إلى ذلك يقود التطور الكبير للخدمات الصحية في أي بلد، إلى زيادة الطلب في القطاعات المرتبطة به، معززا تنويع مصادر الدخل، ويزيد في الوقت نفسه قدراته التنافسية مقارنة بالدول الأخرى في هذا المجال، ما يدعم صادرات الخدمات والمنتجات الصحية، ويحسن ميزان مدفوعاته الخارجية.