الجودة الصحية ( صحيفة الرياض-بقلم د. محمد عبدالله الخازم

 

 أكرر المطالبة بالتركيز على النوع لا الكم في غالبية ما أطرحه من آراء وملاحظات تتعلق بالصحة والتعليم وغيرهما من المجالات، وحيث ركزت كثيراً وسأواصل في ماله علاقة بالمجال الصحي والبحث في سبل تطوير الخدمات الصحية، وتقييمها وتطويرها للأحسن أتوقف في مقال اليوم عند موضوع الجودة في الأداء الصحي وكيفية النظر إليها.

وأستخدم مصطلح الجودة وأحياناً أستبدله بالنوعية، على اعتبار الحديث عن النوعية يعني ضمناً الجانب الايجابي لها، من المفهوم اللغوي العام لمعنى الجودة أو النوعية، وبشكل يتناسب مع طبيعة المقال، وكونه موجهاً لشريحة واسعة من القراء تبحث عن زاد ثقافي ومعرفي عام، لا يعكر انسيابيته مصطلحات وتعريفات أكاديمية وتخصصية بحتة..

الصعوبة الرئيسية في موضوع النوعية، بصفة عامة وفي المجال الصحي بصفة خاصة، هي في تحديدها وقياسها، فمن الناحية النظرية يمكنني تكرار المطالبة بالجودة وربما يوجد في ذهني نموذج أو تصور محدد، ولكن هل يتفق الآخرون معي في تحديدها وهل يملكون نفس التصور عن النوعية، وعن مسببات تدني الجودة وكيفية تطويرها والتغلب على مصاعبها؟ بغض النظر عن التباين في وجهات النظر وبعيداً عن الفلسفة الشخصية التي أتبناها في هذا المجال هناك مبادئ بسيطة يمكن من خلالها الحكم على جودة الأداء أو النظام الصحي، فعلى سبيل المثال:

ـ التقليل من الاختلافات في الممارسة الطبية وتقليل الأخطاء الطبية يدل على الجودة.

ـ قصر أوقات الانتظار بين المواعيد وقصر الانتظار لاجراء العمليات الاختيارية يدل على جودة النظام.

ـ انطباع ورأي المريض عن النظام الصحي يدل على مدى جودة النظام.

ـ توفير الخدمات الصحية بشكل مقبول لجميع فئات المجتمع بشكل متوازن، الأطفال والنساء وكبار السن وأصحاب الإعاقات وذوي الأمراض المزمنة والشباب وغيرهم، يدل على جودة النظام الصحي.

ـ الالتزام بالمعايير والأخلاقيات الطبية والإدارية دليل آخر على جودة النظام.

ـ وجود معايير ونظم واضحة تحكم النظام الصحي تدل على جودته.

ـ توفر الخدمة الصحية الفعالة في الوقت والمكان المناسب للمريض دليل على مدى جودة النظام الصحي.

تلك مؤشرات عامة، بعضها يمكن قياسه بشكل موضوعي والبعض الآخر يظل خاضعاً لوجهات النظر الشخصية والخلفية التي منها ينطلق التقييم، ومرة أخرى تستخدم الأمثلة لايضاح مثل هذه الفلسفة:ـ

ـ الجودة من المنظور المهني الطبي هي تقديم أفضل الخدمات وفق أحدث التطورات العلمية والمهنية، ويحكم ذلك ثلاث نقاط رئيسية: أخلاقيات الممارسة الصحية، الخبرات ونوعيتها والخدمة الصحية المقدمة.. والاتهام للعاملين في المهن الصحية بتدني المستوى أو الجودة ينطلق من عدم الكفاءة، عدم القدرة على التعامل المثالي مع بعضهم البعض ومع المريض والإداري، وكذا عدم الالتزام بالمعايير والأخلاقيات التي تحكم المهن الصحية، اضافة إلى ضعف التأهيل والممارسة والخبرة..

ـ الجودة من منظور المستفيد أو المريض، قد تختلف عن المفهوم المهني بالتركيز على طريقة الحصول على الخدمة ونتيجتها النهائية، وهنا لا يكفي النظام المتقدم أن يركز على فرض التنظيمات وسن التشريعات التي تبنى على أسس مهنية أو تنظيمية محددة دون الالتفات إلى احتياج ورغبة وطموح وآمال المستفيد النهائي من كل ذلك، وفي الخدمة الطبية يجب أن تكون الخطوة الأولى في العلاج معرفة شكوى واحتياج المريض، ويجب أن يكون الهدف النهائي هو معالجة أو التغلب على تلك الشكوى، والتفاصيل ما بين ذلك تعتبر مفيدة للمريض ولكنها ليست الهدف من مراجعته لطلب العلاج، وأفضل طريقة لمعرفة تحقق الجودة في هذا الجانب تكمن في قياس مدى رضاء العملاء وهم في الجانب الصحي للمرضى، بطرق مقننة يمكن الاستدلال منها على مدى جودة الخدمة..

ـ الجودة الصحية من الناحية الإدارية تعنى بالدرجة الأساسية بكيفية استخدام الموارد المتوفرة والقدرة على جذب مزيد من الموارد لتغطية الاحتياجات اللازمة لتقديم خدمة متميزة، وهذا يشمل ضمناً أهمية تقديم الخدمة المناسبة في الوقت اللازم وبالتكاليف المقبولة، وبقدر الاهتمام بالتكاليف وترشيد الموارد يجب الحرص على أن لا يكون ذلك على حساب الجودة في الأداء ويتطلب ذلك كفاءة إدارية على المستوى التخطيطي وعلى المستوى التنفيذي، ويتطلب كفاءة على المستوى الفني وكفاءة على المستوى الشخصي، ويتطلب تنظيماً إدارياً داخلياً جيداً وكذا تنظيماً إدارياً واضحاً في التعامل مع الأطراف ذات العلاقة خارج النظام، فعندما يرتبط النظام على سبيل المثال بجهات مالية أخرى تؤثر على كمية الموارد المتوفرة، فإن إدارة النظام الصحي تصبح مسؤولة عن تطوير المبررات والحيثيات المهنية والموضوعية والاجتماعية التي تتيح لها المطالبة بمزيد من الموارد، وبشكل أدق يتطلب البحث عن الموارد اللازمة تطوير العلاقات العامة للمؤسسة والقطاع الصحي، بما في ذلك العلاقات الشخصية للقيادة الصحية للبحث عن مزيد من الموارد وللتعامل والاقناع للجهات المعنية بتوفير تلك الموارد، وتبرز الحاجة إلى العلاقات الاجتماعية والشخصية بشكل أكبر في المجتمعات ذات التنظيمات الإدارية والبيروقراطية والسياسية المعقدة والغامضة، والنظام الصحي بصفة عامة نظام معقد يتطلب الكثير من الجهد في الارتقاء بالجودة الإدارية.

ـ ويبقى هناك وجهة نظر أخرى للجودة، ألا وهي وجهة النظر السياسية أو وجهة نظر القيادة والإدارة العليا بالدولة، وغالباً ما ينطلق القياس هنا من مدى رضا المواطن والمقيم عن أداء قيادته في دعم وتطوير الخدمة الصحية والنظام الصحي، وحين تضع القيادة العليا ثقتها في القيادة الصحية أو التنفيذية فإنها تضع لها هدفاً لا يخرج في الغالب عن اطار تحقيق الرضا للمواطن بتقديم أفضل الخدمات الصحية الممكنة له، وفي نفس الوقت فإن المنظور القيادي أو السياسي يبحث عن كفاءة النظام الصحي من ناحية توازن مصاريفه مع ما يقدمه من خدمة ومدى قدرته على رسم استراتيجيات مستقبلية تضمن الاستقرار والتطور الطبيعي للنظام الصحي ضمن منظومة العمل الإداري للدولة بشكل عام، بجوانبه الاقتصادية والتقنية والاجتماعية والبيئية والسياسية.. الخ.

ولمزيد من الايضاح نشير إلى أهمية النظر إلى الجودة الصحية بالنظر إلى الرعاية الصحية كنظام، أو ما نطلق عليه النظام الصحي، ويتم تقييم الجودة هنا وفق معاييرمنفردة ومجتمعة وبشكل تنظيمي، تنظر إلى كافة مكونات النظام الصحي الرئيسية التي منها:

ـ البنية التحتية، وتشمل الإدارة، التنظيم، التشريعات والقوانين التي تشكل وتحكم عمل الفريق الطبي والصحي وما يشمله ذلك ضمناً مثل العلاقات بين أفراد الفريق الصحي ومع الجهات ذات العلاقة خارج الفريق الصحي وتكوين الفريق الإداري القيادي..

ـ البنية المادية وتشمل المباني والمنشآت وتحديث الأجهزة وصيانتها.. الخ.

ـ التعليم والتدريب ويشمل التقييم المهني والتدريب المستمر وتطوير الكفاءات.. الخ.

ـ أسس الجودة النوعية مثل المراجعة للتنظيمات وكيفية إجرائها.. الخ.

ـ تصنيف المجتمع الممارس لتقديم الخدمة الصحية وخلفياته الديموغرافية والتدريبية والعلمية وعلاقة ذلك بمدى الرضا الوظيفي وكفاءة الأداء.. الخ.

قبل أن تنتهي المساحة المحددة للموضوع، أشير إلى ان موضوع الجودة الصحية ومرادفاتها ومشتقاتها يعتبر من العلوم المتخصصة التي تدرس بشكل مستقل أو ضمن سياق مواضيع الإدارة والتنظيم والمعلومات الصحية، والاستطراد في السرد حول الموضوع دون عناوين محددة وأشكال توضيحية قد يبعث على الملل، وبالتالي فالهدف في هذا المقال لم يكن حصر جميع النقاط المتعلقة بالموضوع بقدر ما هو تقديم جرعة تثقيفية نأمل أن تسهم في تشكيل الوعي والمفهوم العام تجاه قضية التطور الصحي وقياس جودته، كمدخل أو توضيح لما تطرقنا إليه سابقاً في مقالات عديدة وما سنتطرق له في المستقبل في مجال نقد أو تقييم النظام الصحي بصفة عامة، والخدمة الصحية المقدمة من مختلف القطاعات والمؤسسات الصحية المختلفة..

الجودة والتقرير الصحي ودلال السيارات

لنتصور أحد دلالي السيارات ممسكاً مكبر الصوت، يحرج على احدى السيارات كالتالي: “سيارة بها أربع اطارات وواحدة احتياط، سيارة لونها أسود، سيارة بها محرك يسمح لك بالسير للأمام وللخلف إن احتجت، سيارة بها أربعة أبواب، سيارة بها أنوار أمامية وخلفية، سيارة بها مقود مدور الشكل..” ماذا سنقول عن هذا الدلال، الذي يحاول إقناعنا بذكائه التجاري الخارق في تسويق هذه السيارة؟! هل قدم لنا شيئاً يستحق الذكر عن مدى جودة وكفاءة السيارة المعروضة للبيع؟

مع الاعتذار لنوعية التشبيه، حالة الدلال هذه نجدها في التقارير الصحية السنوية، فهي تقول لنا بأن هناك مستشفيات، وهناك مرضى وهناك أطباء وهناك فلوس يتم صرفها سنوياً وهناك أمراض… وكل ذلك طبيعي ومعلوم ولا خيار لنا فيه، طالما يوجد أناس تتزايد أعدادهم وتتزايد أمراضهم، ولكن ما هي مؤشرات تميز الجودة والنوعية والأداء التي تقدمها لنا تلك التقارير، ما هي معايير التطوير التي تقدمها لنا تلك التقارير السنوية وما شابهها من تصريحات إعلامية..؟

في موضوع الجودة نشير للقارئ بأن لا يخدعه دلال حراج السيارات بكثرة الصراخ حول السيارة المراد بيعها، وإنما عليه التدقيق في ما يقدم له أو يخفى عنه من معلومات تتعلق بجودة السيارة وكفاءة محركاتها وأدائها الميكانيكي… تماماً كما هو مطلوب منا أن نتمعن في جودة الخدمة والأداء الصحي، لا أن نكتفي بالتغني بحجم مشاريعنا المعمارية الصحية، وبأعداد المرضى والأسرة… الخ.

مع دعواتي الدائمة بالصحة والسلامة للجميع..

 

 

إعداد: دينا المحضار