د.م/ عصام أمان الله بخاري.

قبل سنوات طويلة، كنت في زيارة عمل إلى دولة أجنبية ضمن وفد تابع لشركة في القطاع الخاص، وصادف أن رئيس الشركة كان يستقل سيارة فاخرة في الطريق لأحد الاجتماعات وخلفها سيارة أخرى أقل فخامة تقلني مع عدد من الزملاء من المديرين في تلك الشركة. وكان بيننا شخص شديد الإعجاب بنفسه وقدراته ويعشق ذاته إلى حد الجنون. التفت إلي غاضباً: “لماذا السيارة التي يركبون فيها أفخم من سيارتنا؟”. لم أعرف كيف أجيب عن هذا السؤال الغريب لكن الحادثة ظلت عالقة في ذهني حيث تصور مشكلة يعاني منها الكثير من المديرين والمسؤولين.

وقبل الخوض في وصف المشكلة، استعرضُ معكم قصة الأستاذ الجامعي العجوز الذي تقاعد من عمله وقرر طلابه الذين تخرجوا منذ سنوات طويلة أن يزوروه ويلتقوا في منزله. كان كل واحد من الخريجين قد ترقى في المناصب وأصبح ذا مكانة اجتماعية مرموقة في مجال عمله بعد أن حقق كل منهم إنجازات كبيرة ونجاحات باهرة. وبعد تبادل عبارات التحية والسلام انطلق كل واحد منهم يشتكي ويتأفف من المشكلات في العمل والبيت والصحة والضغوط المختلفة والقلق الذي يعيشونه. اختفى الأستاذ الجامعي العجوز قليلاً، ثم رجع وهو يحمل مجموعة من الأكواب المتنوعة والمختلفة فمنها المطلي بالذهب، ومنها المصنوع بالكريستال، وكوب آخر من الحديد وآخر من البلاستيك وكوب من الزجاج العادي. كانت بعض الأكواب غالية الثمن وأخرى رخيصة تجدها لدى البيوت ذات الحالة المادية الصعبة.

دعا الأستاذ طلبته لياخذ كل منهم كوباً ويباشر نفسه بالقهوة. وما هي إلا دقائق وعاد كل طالب يحمل كوبه المليء بالقهوة. وهنا خاطب الأستاذ طلابه: “هل لاحظتم أنكم تسابقتم على الأكواب الفاخرة وتجاهلتم الأكواب العادية؟ لقد كان كل واحد منكم ينظر إلى الأكواب التي يحملها أصدقاؤه ويقارنها بالكوب الذي في يده. هذا هو مربط الفرس وسبب القلق والضغوط التي تعانون منها. لو فكرتم بهدوء لعرفتم أن ما كنتم تحتاجونه هو القهوة وليس الأكواب. ولكنكم حملتم هم نوعية الأكواب ونسيتم الاستمتاع بالقهوة. القهوة يا أبنائي هي الحياة، والأكواب هي الأموال والبيوت والسيارات والمناصب وعندما تجعلون تركيزكم ينصب عليها فإنكم تفقدون القدرة على الاستمتاع بالحياة كما أنستكم الأكواب الاستمتاع بطعم القهوة”.

في الواقع، ففي الوقت الذي يكون فيه الطموح محموداً والاجتهاد والسعي للأفضل دوماً مطلوباً، فمن الخطأ الجسيم أن ينشغل الإنسان بما لدى الآخرين ويضيع وقته وجهده في المقارنات ونسيان النعم الكثيرة التي يعيشها. هذا الصراع النفسي لا يقتصر على الشخص نفسه بل يتجاوزه إلى غيره. فمن أكثر التجارب إيلاماً للموظف عندما يكون من يحسده ويحاربه ويضع العراقيل في طريقه هو مديره الذي يفترض أن يكون أول الداعمين له. ففي حالة القائد، ينبغي أن يكون أكثر الناس حباً للخير لفريقه ويعمل بكل ما لديه لمصلحتهم ونفعهم ولو على حساب مصلحته الشخصية. وكلما أحسن الإنسان للآخرين بنية صافية يسر الله له دروبه وبارك له في عمله وأموره جميعها.

ويمكن اختصار الكثير من المعاني الواردة في المقالة بالآية الكريمة في قوله تعالى: “وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَوةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى”.

 

المصدر:https://www.alriyadh.com/1974732