يتخرج من الثانوية بامتياز مرتفع مع اجتياز للقدرات والتحصيلي بدرجات تفوق الأغلبية، يصارع في السنة التحضيرية من أجل طموح قد زُرع في داخله! أنت مجتهد، إذن ادخل كلية الطبّ! يتفوق في السنة التحضيرية ليجد نفسه مؤهّلا لأن يضمّ حرف الدال إلى اسمه، هنا ستجد نوعين من الطلّاب : إمّا طالب تفوق لرغبته بدخول الطبّ، وإمّا طالب تفوّقه من ساقه إلى الطبّ، فرغباته مجهولة a! الأول سيستمر في التخصص، والثاني سيحاول ولكنّه سيفشل إلّا إذا اقتنع بالطب بشكل جزئي أو كامل.
تأتي سنة الامتياز بعد ستّ سنوات دراسية ما بين نظرية وعملية وسريرية ليحاول الطبيب تكوين مساره الطّبي، وفي أيّ تخصص سيكمل مسيرته العلمية.
وبعد حصوله أحد البوردات أو الزمالات خلال عدة سنوات يعود ليكمل ما بدأه في مسيرته العملية وتكوين ذاته الطبّية.
الآن سيطمح الأخصائي ليكون أكثر دقّة في تخصّصه الذي تعنّى لأجل بلوغه ١٠-١٢سنة، وستمتدّ المسيرة ليكتمل الطبيب البارع بإكمال درجة الدكتوراه في نفس المجال، والتي تمكّنه من فهم كل صغيرة وكبيرة وتساعده في التركيز بشكل أكبر من الأخصّائي.
انتهت 13-15 سنة من حياة الطبيب في تعلّم ذاك العلم الواسع ولربّما أراد زيادة هذه الحصيلة إلى 18 سنة من الدراسة، وسيبقى الطبيب دارسا ليحدّث كل جديد في مجاله، فالطّب حياة والطبيب -بفضل الله –  حياة للمرضى، قال تعالى: ( ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعا ) فبقدرة المولى ثمّ بسبب من الطبيب انتهت معاناة الكثير ممن بات الألم حزنهم، وعادت حياةُ آخرين، فترتسم الابتسامة على وجوه المرضى وذويهم، غير تخفيف عنهم عناء دفع مبالغ طائلة ليجدوا الدواء الشافي.
فبنظرة من طبيب حادق أو تشخيص نبيه أو لمسة ساحره بل بنصيحة عابرة  قد ينتهي حزنا بات طويلا !
فقد قضى الطبيب عمرا بين طيّات العلم يتدارسه حتى يساعد في إحياء الناس.
يجتهد فترة يعالج فيها المرضى ويصول ويجول في العيادة بين مريض وآخر حتى يبرز في مجاله وينتشر اسمه بين صفحات الإنجاز، الدكتور (فلان) ينجح في إجراء العملية، ينجح في استئصال الورم، ينجح في فصل التوأم، ينجح في استكشاف علاج لمرض، ينجح في إنهاء معاناه !
أصبح ناجحا، أصبح بارعا، أصبح ورقة رابحة في المجتمع، أصبح شيئا نادرا يُبحث عنه،  أصبحت عيادته مليئة بمن انتظر كثيرا ليصل إليه، أصبح ما كان ينتظر الوصول إليه.
ولكن ما النتيجة ?! بماذا يُكافأ ?! 
تبدأ عروض الإدارة (الكرسي) بإغرائه !!
عجبا !! وهل يكافأ الصيدلي المجتهد بشغله عيادة الأعصاب !?
أليسا تخصّصين متقاربين !? أم أنّ التقارب بين الإدارة والطبّ أكثر منه في الصيدلة والأعصاب ?!
أمّا إن كان المقصد هو أنّ الطبيب بإمكانه شغل الإدارة بمجرّد الخبرة فمن المنطقيّ أن الصيدلي قد درس تفاصيل جسم الإنسان وتنقصه الخبرة ليصبح مؤهّلا في الأعصاب !
أمّا إن كان الحديث عن حياة المريض وأنها ليست للتجارب إلى تصل الخبرة لصاحب الصنعة، فصحيح! حياة المريض هي أساس كل مستشفى أُقيمت والمستشفى التي لا تهتم لأدقّ تفاصيل الراحة للمريض ورضاه ستبقى مستشفى لم تعمل لأجل الهدف العام لجميع المستشفيات، وعندما نبني تجاربنا على إدارة المستشفى بشغلها طبيبا بلا مؤهل كاف لتلك الإدارة، وينتج عن ذلك أخطاء إدارية على إثرها تتراكم الأخطاء الفنيّة وتصبح حياة جميع المرضى (وليس مريضا واحدا) في خطر يمكن استدراكه، فهنا يكون الأولى شغل الشخص الصحيح (المؤهل) في المكان الصحيح  وعدم الإهدار بالتجربة.
كم من طبيب غير مؤهل كوفئ بالإدارة راغبا أو غير راغب !?
ليست المسألة تشريفا، بقدر كونها تكليفا !
في مقال للدكتور أيمن كريم -استشاري أمراض الصدر واضطرابات النوم- بعنوان (مدير فهلوي) والذي نُشر في صحيفة المدينة بتاريخ 26-12-2012  استشهد بدراسة نُشرت في صحيفة الحياة فذكر : “في

خبر غير مُستغرب نشرته صحيفة الحياة (25 سبتمبر 2012)، توصّلت نتائج دراسة حديثة إلى أن «(90 %) من مديري مستشفيات وزارة الصحّة، لا يحملون مؤهّلا دراسيا في تخصص الإدارة»، لكن الصّادم – من وجهة نظري – تصريح استشاري الإدارة الصحية الدكتور حمود الشمّري، أن الدراسة التي أجراها على جميع مديري مستشفيات وزارة الصحة، خلُصت إلى أن «(34 %) منهم، يحملون مؤهلا أقلّ من البكالوريوس !!. »
أما الطامّة الكُبرى – في رأيي – فتكمُن في أن (89 %) منهم «رأوا أنـّهم قادرون على قيادة الدفة الإدارية في المستشفيات، بالخبرة والممارسة وليس بالمؤهّل»” واسترسل قائلا في المدراء الغير مؤهّلين ” فبعض المديرين – هداهم الله وأصلحهم – مازالوا يضحكون على أنفسهم، ويظنـُّون أنـّهم «فلْـتات»، لم تُنجب الإدارة أمثالهم، مع أن كراسي بعضهم أكبر من أن يملؤوها، بل يستميتون في إقناع من حولهم أن الإدارة الطبية «خبرة وممارسة» فحسْب، وليست دراسة وتأهيلا أكاديميـًا، كغيرها من التخصصات العلمية، لإخفاء ضعف مؤهّلاتـهم، والوقوف عَـقَبة في طريق غيرهم من الكفاءات الإدارية”
فلو أنّ الإدارة تُكتسب فقط بالخبرة لما أُسّست جامعات لتدرّس العلوم الإدارية، ولما أنشئ قسم الإدارة الصحية في كثير من الجامعات ومنها المملكة العربية السعودية  فخرّيجوا هذا القسم (المؤهلين) هم من سيشغلون الإدارات على مستوى المستشفيات ووزارة الصحة.

أمّا الأطباء فبقاؤهم في عياداتهم هو الأولى لهم وللمجتمع، ولا يُدفنوا بذهابهم إلى الإدارة من غير تأهيل كاف فلا هم الذين نفعوا الناس بعلمهم في عياداتهم، ولا هم الذين  نفعوا في تأدية الأعمال الإدارية بالشّكل الصحيح, فخسر المجتمع الطبيب الناجح وخسروا الإدارة التي وُكِلت إليه.
وتتأكد أهميّة بقاء الأطبّاء في عياداتهم عند معرفة عدد الأطباء السعوديين في المملكة، فمن خلال ما ذكرته وزارة الصحة في كتابها الإحصائي السنوي الأخير أنّ عدد الأطبّاء الإجمالي هو 71 ألف طبيب، منهم 17 ألف طبيب سعودي فقط ! فهو عدد قليل وكلنا بحاجة هؤلاء القلّة من الأطبّاء, ولا حاجة لخسارة هذا الكمّ القليل على حساب المناصب الإدارية.

إدارة المنشآت الصحية هي أصعب الإدارات لتعاملها مع حياة وموت، والمؤهّل في مجال إدارة الخدمات الصحية هو الشخص الأنسب لإدارتها، فمتى ما كان الشخص المناسب في المكان المناسب ستنتهي الكثير من المشاكل، وسيبدأ القطاع الصّحي – أهمّ القطاعات في الدّولة بعد التعليم – بالنهوض والتكوين بشكل أفضل.

“هو علم كما أن الطب علم، بل هو من أعقد وأهم علوم الإدارة، حيث يتعامل مع الانسان وصحة الانسان جسدا وعقلا وروحا، فمن الخطأ أن يتولى أو يُقحم في إدارة المنشآت الصحية من ليس له علم ودراية في الإدارة الصحية بل قد يؤدي ذلك إلى ضرر أكبر من منفعة” د. وليد فتيحي المدير التنفيذي للمركز الطّبي الدولي بجدة.

وكما قيل ” ليُترك الخبز لخبّازه “.

 

# أسامة خالد بن سلمان