“ لا أسمع ، لا أرى ، لا أتكلم ، أطبّل “ هل أصبحت مصدر رزق !
كان صوت مذياع السيارة عالياً بما يكفي لأن يدخل على خط حديثنا ( أنا مع ثلاثة من الأصدقاء ) بينما كنا في رحلة سفر .
بدأ المتحدث يسرد مقولات عن دور النقد في بناء المجتمعات ، و كان مما قاله نقلاً :
النقد أمر نستطيع تفاديه بسهولة بألا نقول شيئاً وألا نفعل شيئاً وأن نكون لا شيء.
أرسطو ( فيلسوف يوناني )
أنا أفُضّل النقد الحاد من شخص واحد ذكي على التأييد الأعمى للجماهير.
يوهانس كيبلر ( عالم رياضيات وفلكي وفيزيائي ألماني )
من لا يتقبّل النقد فهو لابد يُخفي شيئا.
( هلموت شميت )
معظم الناس يفضلون ان يقتلهم المدح عن ان ينقذهم النقد.
( نورمان فنسنت بيل )
يمارسُ ( صديقي الأول ) عادةً طرح الأسئلة ليتركها هكذا هائمة ، تبحث عن إجابات تحتويها ، لذلك لم أستغرب أن يُغلق صوت المذياع ويبدأ في طرح أسئلته ، فكان مما قال :
إلى أي حد نقترب فيه أو نبتعد في مؤسساتنا عن تلك القيم العالية ؟
ماهو الإطار الذي أصبح يحكم علاقاتنا مع حضرة المسؤول / المدير / الزميل ؟
هل أصبح النقد في حضرتهم جُرأة غير مُحببة / مثالية غير مرغوب بها / إثارة مصطنعة ؟
هل أصبح لزاماً علينا أن نتناغم مع قرع الطبول المصاحب لأي فعاليّة / حدث / قرار ؟
هل يمكن أن يتسبب مجردَ طرح مانؤمن به ، بكل هذا التعكير في المزاج العام ؟
يجيب ( صديقي الثاني ) وكان ممن يحب تفنيد الأشياء وسبر أغوار تفاصيلها فيقول :
الثقافة السائدة ، ربما تجعل من التناغم التام والقبول الكامل لكل مايُطرح خياراً ملائماً لدى البعض ، تحت ذريعة أن البقاء ضمن القطيع أكثر أماناً من مخاطرة أن تعطي عقلك فرصةَ أن يكون مرآة لك ، عِوضاً لأن يكون نسخة تقليدية للآخرين .
ويستطرد قائلاً :
ربما أصبح الكثير يختار تلك المنطقة الآمنة التي تتكيّف مع مبدأ ( لا أسمع ، لا أرى ، لا أتكلم ) ، فلا يطرح فكرةً ولا يمارس نقداً ولا يُقدّم نصحاً ، كل ذلك في سبيل الحصول على نقطة يعتبرها إمتيازاً وهي ( لا لي ولا علي ) ، فيُخفي إمتعاضه عن كل الممارسات السيئه تحت غطاء “ لست مضطراً لأن أخسر أحد “ .
وبينما يمكن تقبّل هؤلاء رغم تلك السلبية المحيطة بمبدأهم ، إلّا أنه يصعب إستساغة صنف آخر أضافوا نقطة للمبدأ الأول من باب كسب العيش كما يزعمون ، فأصبحوا يتبعون مبدأً أكثر تطرّفاً بإتجاه السلبية وأشدُّ إمتثالاً للإنقياد ، يتمثّل هذا الطور الجديد من التبعيّة في شعار :
( لا أسمع ، لا أرى ، لا أتكلم ، أطبّل ) فأصيبوا ومن حيث لايشعرون بما يمكن أن نُطلق عليه “ متلازمة الإعجاب “ ، فغدوا يُرسلون عبارات الثناء في كل إتجاه وناحية ، حتى في تلك المواضع التي لايستدعي كل هذا الفيض الكاذب من المشاعر ، والمحفز لديهم لممارسة هذا الشكل من الدجل قناعة محورها “ ربما يأتي يوم أستفيد فيه من بركات هذا المسؤول “ .
يجهل هؤلاء أن المدح المبالغ به هو إساءة بنمط عصري ومختلف ليس أكثر ، وأن هذا الإنصياع التام قد يخنق بداخلهم كل فكرة في مهدها ، وقد يتبلد لديهم مع الوقت الإحساس بأي دور يمكن أن يقوموا به بإتجاه التغيير الإيجابي ..
أمّا ( صديقي الثالث ) الذي كان ينظر لجزء ربما يراه ممتلئاً من الكوب فيقول :
لايمكن إغفال وجود أقلية مؤثرة تمارس دوراً إيجابياً ، فتنطق حينما يستدعي الأمر في وقت يختار فيه البقية الصمت ، وتُعبّر عن رأيها بشفافية وبإحترام في وقت يُعتبر فيه هذا التعبير عند البعض ، تجاوزاً للمسافة الواجب تقديسها مع الآخر .
إلتفت إليّ الأصدقاء ، ووجدت نفسي مضطراً عندها لأن أغادر تلك المنطقة الآمنة التي تضمن لي البقاء ضمن قطيع لايشمل أصدقائي الثلاثة بكل تأكيد ، فأصبح لزاماً علي هذه المرّة تحديداً أن أكون إنعكاساً لعقلي كما كانوا كذلك ، فقلت :
إن إحساس الشخص بالكمال المعرفي يجعل منه عقلاً ضامراً وغير متطّلع للجديد ، لإنه يعتقد تختيمه لسباق العِلم و الإدراك !
يجعل ذلك من فكرة الإستزادة بما لدى الآخرين فكرةً سخيفة ، ومن خيار تقبّل النقد كمصدر مجاني للتعلّم خياراً ساذجاً .
ربما يتطلب الأمر ثورة على مستوى القناعات الشخصية ، لبناء إطار مختلف يجعل من عقولنا منصةً لإلتقاط ماهو جديد وربما مخالف لما إعتدنا عليه ، ومن ثمّ معالجة هذا الجديد والمخالف وأخذ ماهو مفيد منه وترك ماهو غير ذلك.
ولبناء بيئة خصبة للنقد والإرتقاء فيما نقدّم ، ربما نحتاج لنمط من التفكير المتحفّز للتعلّم ، ومبادىء أكثر إحتواءً للأراء ، وقِيّماً تنطلق من تقبل المختلف ، وأخلاقاً منصتها التواضع الجمّ ، ومحرّكها الإعتراف المستمر بالقصور المعرفي التي سيضل يعترينا من المهد إلى اللحد .
ربما يمكنك أن تبقى أسيراً للنوع الأول ( التابع ) فتظل على الدوام مجرد إرتداد لما يقول ويرغب به البقية ، لكن على الأقل لاتمارس مع النوع الثاني ( المستقل ) دور الوصي ، فتخبره كيف أن الصمت ( كقاعدة عامة ) يمكنه أن يجلب له السعادة على الدوام ، ولا تردد على مسامعه أن راحة البال مرتبطة بما يمكن أن يكسبه من إمتيازات نتيجة تأييده لكل مايقدّم / يُطرح وإن كان يتعارض مع مايعتقده أو يؤمن به .
القضية بإختصار :
هناك فارق بين أن تكون أولوياتك مرتبطة بمدى تصالحك مع نفسك ومبادئك ، وبين أن يصبح هاجسك مرتبط بمدى تصالحك مع الآخرين !
دمتم بسلام ..
سلمت يداك