” كلانا يا دكتور، راحل إلى مكان ما ! “

خواطر مسافر خطها صاحبنا قبل خمس سنوات، وكان على جناح سفر حينها..لكنه لم يضع عصا الترحال عن عاتقه بعد! والله المستعان!

 

استلقى صاحبنا على فراشه يطارد الكرى، ومازالت تلك العبارة التي ودعته بها إحدى مريضاته صبيحة ذلك اليوم ترنُّ في أذنيه “كلانا يا دكتور راحل إلى مكان ما”… تذكّر لقاءه الأول مع هذه المرأة الخمسينية منذ سبع شهور خلت… يالله.. لكأنما شاخت فجأة… لقد حفر همُّ مرض السرطان أخاديده في وجهها… وبعد جلسات علاجية متوالية لدعمها في معركتها الشرسة مع المرض، كان الوداع حتمياً… هي تعدّ أيامها الأخيرة في هذه الأيام، وصاحبنا يربط أمتعته راحلاً لمدينته. 

تاريخ الثلاثين من يونيو 2010 يوم مختلف في حياة صاحبنا… كل الأوراق الرسمية التي بحوزته تشير لهذا التاريخ كآخر يوم له في كندا… لابد أن يغادر… لقد  انتهت بعثته… بعد هذا اليوم سيتوقف عمله في مستشفيات جامعة تورونتو، وتأمينه الصحي، وراتبه من الملحقية… مسكنه سيؤول لعائلة أخرى… وسيارته سيقودها شخص آخر.

“كلانا يادكتور راحل إلى مكان ما”…تذكر صاحبنا أنه كما سيرحل بإذن الله إلى الرياض في الثلاثين من يونيو، فإنه ولاريب سيرحل يوماً ما إلى الدار الآخرة.  لقد استعد لرحلة الرياض منذ بضع شهور، وأعد العدة لرحلته بحيث يمر بدبي ويقيم ليلة في أحد فنادقها في طريقه للرياض… أما رحلته للدار الآخرة؛ فقد حُددت ساعتها قبل أن يُخلق { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون }…هو لا يدري متى وأين تحين؟… لكن الشيب وقد غزا فوديه ينذره كل حين {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير}… هو يعلم أن سفره للدار الآخرة يمر بأهوال بعد أهوال…حياة البرزخ ثم يوم الجزاء والحساب… { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }…في يوم يشيب لهوله الولدان { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا }….وبعدها حياة الخلود إما في الجنة نسأل الله من رحمته، أو النار عياذا بالله منها.

تنهد صاحبنا بحسرة وهو يقارن استعداده ما بين هاتين الرحلتين… لقد عمل بجد واجتهاد لكي يعود للسعودية وقد حصل على الشهادات العليا في مجال تخصصه…لكن السؤال الكبير يظل دائماً عصياً على الجواب..لماذا لا يستعد لرحلته للدار الآخرة كما يستعد لغيرها من الرحلات؟!… لقد قرأ في القرآن مرات ومرات صفات عباد الله المتقين، ولماذا استحقوا دخول الجنة دون غيرهم؟ { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}… ولم يزل يقرع سن الندم على غفلته وتفريطه …آه ثم آه ثم آه … دمعت عيون صاحبنا أو كادت وهو يكرر أدعية النوم ويتضرع لخالقه “اللهم اجعلني ممن طال عمره وحسُن عمله”.

“اللهم اختم لي بخير وللمؤمنين والمؤمنات”

أخوكم/ فهد بن دخيل العصيمي