خلق الله تعالى الإنسان وأكرمه بمنحه حق حرية الاختيار، باعتباره من أساسيات الحياة. ومبدأ الاختيار هو ما يقوم عليه علم الاقتصاد والذي يبحث في كيفية اختيار الناس من بين البدائل المتاحة لهم بناءاً على مواصفات ومعايير معينة تمثل أهمية لديهم. وفي علم الاقتصاد أيضاً، يعتبر الاختيار مؤشراً أساسياً للرفاهية الاقتصادية والتنمية. فكلما توفرت البدائل أمام المستهلك، كلما زادت قدرته على المقارنة بينها لاختيار ما يناسبه. وعندما يختار أحدنا منتجاً أو خدمةً معينة فهذا يعني أنه قرر دفع قيمة ذلك المنتج/الخدمة بالإضافة إلى التضحية والاستغناء عن باقي البدائل المتوفرة وقيمتها المادية والمعنوية، وهو مايعرف بتكلفة الفرصة البديلة.
إن تعطيل حرية الاختيار ماهو إلا تكريسٌ لمبدأ الإكراه وهو سلوكٌ عارضه القرآن الكريم، فلا إكراه – حتى في الدين. تتجلّى ممارسات الإكراه في حياتنا بصورٍ مختلفةٍ، فهو يتجسد تارةً بصورة انعدام البدائل التي يمكن للمرء الاختيار والمفاضلة بينها مما يمهِّد أيضاً للاحتكار وانعدام التنافسية. وتارةً يمارس الإكراه بطريقة غير مباشرة، حيث تتوافر البدائل المختلفة ولكن تتعذر المقارنة بينها بسبب شح وندرة المعلومات أو لتعقيدها وصعوبة فهمها واستيعابها. ينسحب ما تقدم على مختلف جوانب الحياة والقطاعات متسببة في تدني جودة الخدمات. ولنا في القطاع الصحي مثالٌ على ذلك، حيث نجد المريض قد ينقاد طوعاً وكرهاً إلى علاجٍ ما أو مركز طبي معين، فقط لعدم توفر بديل أو كفاية المعلومات عن ذلك البديل. حتى معلومات مؤشرات جودة الرعاية الصحية وخدماتها لم توضع بطريقة يستطيع الشخص العادي فهمها واستخدامها لما وضعت من أجله. فأضحى المستهلك في حاجة ماسة إلى مثالٍ ونموذجٍ حيٍ يمارسه ويعايشه ويستقي من خبرات وانطباعات وتجارب مستخدميه.
في مقابلته التي اتسمت بالشفافية مع الإعلامي عبدالله المديفير في شهر رمضان الماضي، أشار ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ‏أن سبب تأسيس صندوق الاستثمار السعودي لشركة “روشن” هو الارتقاء بمستوى التطوير العقاري في المملكة. وعند سؤال سموه ما إذا كان مثل هذا التوجه سيؤثر على عدالة المنافسة في السوق العقارية – كونها شركة مملوكة للدولة!! أوضح سموه أن من حق المستهلك أن يجد نموذجاً حياً مثالياً لمقدم الخدمات يراعي معايير الجودة وملاءمتها مع الأسعار ليتسنى له المقارنة والاختيار. فنكون بذلك – والكلام لسمو ولي العهد – عززنا من قدرة المستهلك على تحديد السلعة أو الخدمة أو المورد الذي يرغب في الانتفاع به من بين مجموعة من الخيارات البديلة المتاحة ومنحناه حق حرية الاختيار، وفي نفس الوقت رفعنا سقف المنافسة بين مزودي الخدمات ليرتقوا بجودة منتجاتهم وخدماتهم.
بنهجٍ مشابه ومستفيدةً من أنظمة الحوكمة والرقابة، تمكنت العديد من المستشفيات البريطانية الحكومية من تطبيق هذا المبدأ وغدت رقماً فارقاً في سوق الرعاية الصحية جعلتها الهدف الأول للمرضى القادمين من الخارج للعلاج في بريطانيا بما فيهم أولئك الذين تمول السفارات تكاليف علاجهم. فازدهرت السياحة الطبية لتصبح مدينة “لندن” من أكثر الوجهات العلاجية العالمية طلباً. كما نجحت تلك المستشفيات في استثمار عوائدها من القطاع الخاص غير الربحي في تطوير منشآتها القائمة وتأسيس أخرى جديدة. ما أحوجنا في المملكة إلى “روشن” صحي يكون نموذج مثالي غير ربحي يقدم خدمات الرعاية الصحية بمنظورها الشامل ويراعي أحدث معاييرالجودة والسلامة نظير مقابل مادي. وكما حدث في بريطانيا على سبيل المثال، لن يشرع هذا النموذج في تقديم أعماله من الصفر، فهو سيقدم من خلال المراكز الحكومية التي تمتلك الإمكانيات المادية والكفاءات البشرية وتمكينها من الاستثمار في مواردها لتتحول إلى مراكز تميز قائمة في قطاع الرعاية الصحية تنافس القطاع الخاص بكل شفافية ويعود ريعها لتطوير المنظومة الصحية الحكومية التي تتبع لها. ستساهم مثل هذه النماذج في استغلال وترشيد استخدام الكثير من الموارد المالية لتلك المستشفيات والمراكز التي لا يستفاد منها بالحد الأقصى بسبب ساعات الدوام الروتينية. كما ستساهم في تقليص قوائم الانتظار للوصول لخدمات الكثير من الكفاءات والطاقات البشرية المتميزة التي تزخر بها تلك المستشفيات ويتماشى مع تحقيق أهداف برنامج التحول الوطني في القطاع الصحي. والأهم أن هذه النماذج ستزيد من عدد البدائل التي يمكن أن يفاضل الشخص بينها مستنيراً بما يقدم من معلومات وافية، فالاختيار هو الأساس.

د/أسامه عمر فلاته – 2 يونيو 2021 – لندن.