منذ بدايات الثورة التكنولوجية سعى الاطباء واخصائيو الرعاية الصحية لاستخدام ادوات ومنجزات التقنية في مجالات عدة من الممارسة الصحية. كان اول الاستخدام في الاتصال الهاتفي مع المريض ثم تطور الحال لنقل البيانات الصحية المتمثلة في صور القلب الكهربائية (Electrocardiogram- ECG) وغيرها لكن ذلك كان بشكل محدود لاسباب عديدة منها ضعف سرعة تناقل البيانات وتعقيد العملية اضافة للتشويش على الاشارة المرسلة والتشويه الناتج للبيانات.

وانذاك لم يخطر بخلد الكثيرين من الاطباء انه سيأتي اليوم الذي يتم فيه تشخيص المرضى وتقديم الرعاية الصحية للمرضى عن بعد. ولكن الايام والسنوات الاخيرة و التي شهدت ازدياد وتيرة التقدم التكنولوجي وخاصة في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي ظهر مصطلح الصحة الالكترونية E-Health. ومن الملفت للنظر ان مصطلح  الصحة الالكترونية بدأ استخدامه في كتابات تسويق المنتجات الالكترونية للدلالة على قدرة التكنولوجيا على ايجاد حلول لمساعدة العاملين في الحقل الصحي. اضافة الى ان تلك الفترة شهدت ظهور مصطلحات مماثلة في جوانب وتطبيقات أخرى مثل التجارة الالكترونية E-Commerce  والحكومة الالكترونية  E-Government والتسويق الالكتروني  E-Marketing وغيره. ولكن مصطلح الصحة الاتلكترونية سرعان ما وجد طريقه وانتشر في كتابات الباحثين والاكاديميين والعاملين في مجال الرعاية الصحية حتى  انك تجد المصطلح حاليا في اكثر من مئة مليون مصدر على الشبكة العنكبوتية .

ومما يكاد يشبه التوافق بين الباحثين ان الصحة الالكترونية كعلم وتخصص قد ولدت من رحم “المعلوماتية الصحية–  Health Informatics “. وقد مر مصطلح الصحة الالكترونية بمراحل واختلف في تحديد معناه وحدوده ومحدداته بحيث تجده في بعض الكتابات متعلقا باستخدام الانترنت في الرعاية الصحية بجوانبها المختلفة بينما هو عند آخرين يتعلق باستخدام اجهزة وتقنيات الحاسب الالي بشكل عام في مجالات تقديم الرعاية الصحية. وحقيقة الامر ان علم الصحة الالكترونية ليس علما جامدا بل متطور ومتحرك بحيث يغطي  مجالات  جديدة ومستجدة ويعالج قضايا لم تكن لسنوات خلت مما يتوقع  ان يصل اليها. وهذا نابع بالاساس من طبيعته المعتمدة على تطور الانترنت والحاسب والاتصالات وما يرتبط بهما من التقنية المستخدمة في الرعاية الصحية . ومما يشير الى تسارع وتغير مصطلح الصحة الالكترونية انه قد تفرع عن الصحة الالكترونية – لدى بعض الباحثين – علم جديد  اطلقوا عليه  الصحة المتحركة M-Health ويتعامل مع استخدامات وتطبيقات الهاتف الجوال والاجهزة المحمولة  في مجال الرعاية الصحية وخدماتها.

وكما ولدت الصحة الالكترونية  من تفاعل وتداخل علوم عدة فقد يتطور وينتج منه تخصصات وعلوم مستحدثة ومما يدل على ذلك هو التوجه لدى كثيرين من العلماء حاليا لاستخدام الصحة الالكترونية في مجالات الطب الوراثي  كاستخدامه للتحديد المسبق لاستجابة المرضى للعلاجات الصيدلانية أو اكتشاف الامراض والاورام وتحديد العوامل الوراثية او تقييم احتمالات الاصابة بامراض معينة في المستقبل.

وفي جميع الاحوال هناك عدة جوانب وقضايا كبرى يتفق عليها أغلب العاملين والباحثين في الصحة الالكترونية  وتشمل سجلات صحية  اليكترونية موحدة، طرق تشخيص الامراض عن بعد اضافة الى مجال البيانات المجمعة  عن الصحة العامة  للمجتمع.

وفي واقع التغير المتسارع للتطورات التكنولوجية والذي كان من الدوافع الرئيسية لتطوير وتطور الصحة الالكترونية وجد العاملون في مجالات الرعاية الصحية انفسهم تحت ضغط مجتمع التكنولوجيا اضافة الى الحاجة الماسة لرفع مستوى الخدمات الصحية وجودتها باستخدام التكنولوجيا وادواتها الى جانب الحاجة الى سد العجز في الكوادر الصحية وخاصة عالية التأهيل مع الطلب المتزايد لخدمات  طبية متقدمة مع التركيز على الالحاح على تأمين سلامة المرضى ورضاهم

وهنا لا بد من التوضيح ان بدأ واستمرار استخدام تقنيات الصحة الالكترونية  لا يخلو من الصعوبات والتحديات والعقبات التي تتوزع على جميع جوانب وعمليات بل والجهات المعنية بتقديم الخدمات الصحية.

فعلى الرغم من الانتشار  الواسع لخدمات الانترنت في بلدان العالم النامي فضلا عن البلدان المتقدمة فان مشاكل وصول خدمة الانترنت وتجهيزاته وارتفاع  تكاليف الخدمة مع ضعف البنية التحية لا تزال موجودة بشكل واضح في دول العالم الثالث. وهذه العوامل مجتمعة او متفرقة ادت وتؤدي الى ضعف وفي بعض الاحيان تلاشي فرص نمو خدمات الصحة الالكترونية في البلدان ذات النمو البطيء اقتصاديا. يضاف الى ذلك المشاكل الادارية والتنظيمية والثقافية التي تعيق تطبيق او حسن تطبيق حتى افضل الخطط الاقتصادية لتبني وتطبيق الحلول التكنولوجية الحديثة في معالجة المرضى وتقديم الخدمات الصحية.

وفي معالجة هذه الاشكالات وسعيا  لتحقيق جودة عالية للخدمات المقدمة تحت مسمى الصحة الالكترونية تمت جهود كثيرة لوضع معايير موحدة (standards) يمكن من خلال تبنيها واعتمادها ان تنظم وترتقي بمستوى الرعاية الصحية. وفي هذا المجال لا بد من ذكر الجهود التي قام ويقوم بها الاتحاد العالمي للاتصالات ITU ومؤسسات مشاركة له حيث اسفرت اعمالهم عن اتفاقات ومعايير عالمية سواء في مجال البنية التحتية للاتصالات التي توفر خدمات الوسائط المتعددة الافتراضية للرعاية الصحية او متطلبات امن البيانات  الصحية الالكترونية وتناقلها وغير ذلك من المعايير

وفي هذا الاطار لا بد من ذكر جهود  مجموعة توحيد وتنسيق معايير الصحة الالكترونية EHSCG  والتي تركز على زيادة التنسيق بين الاطراف الرئيسية  المعنية في مجال تقييس الصحة الالكترونية. حيث تسعى لتيسيير تبادل المعلومات بين الجهات المعنية بتقييس خدمات  الصحة الالكترونية  تجنبا لازدواجية العمل.

وهذه الجهود في مجال توحيد المعايير القياسية للصحة الالكترونية ومتطلباتها لا تقتصر على ما ذكر بل تساهم في ذلك مؤسسات وجهات عريقة في مجالات متداخلة ومشتركة. فهناك  معهد مهندسي الكهرباء والالكترونيات IEEE وكذلك الفريق الهندسي للانترنت IETF و المنظمة الدولية للمعايير والتقييس ISO  وجهات أخرى.

ومن هنا يمكن القول ان الصحة الالكترونية كعلم وتخصص تتحرك في كل اتجاهات التطور النوعي والكمي وتتوسع الى مجالات مستحدثة وتتشارك مع الكثير من المؤسسات التقنية والعلمية لتقديم خدمة صحية افضل وتتداخل مع  مزودي خدمات تقنية ومؤسسات بحثية وجهات دولية تعنى بالصحة  والتقنية.

وفي الحالة العربية ومعها الدول النامية لا يزال هناك الكثير مما يمكن انجازه سواء في تاسيس وتطوير البنى التحتية والفوقية للصحة الالكترونية او في مجال التطبيق والتوسع في الخدمات الالكترونية الصحية بما يقوي ويدعم برامج الرعاية الصحية . وكل هذا مصحوب بمواجهة صعوبات التغيير الثقافي  والتأهيلي  المهني والذهني سواء للعاملين في حقل الرعاية الصحية بشكل عام أو لمتلقي الخدمات الصحية.

ويدور في خلد المتابع لهذا العلم سؤال بل اسئلة عما سيصبح  عليه حال الرعاية الصحية بعد عقدين او ثلاثة من الان؟ هل ستسهم التكنولوجيا في تحسين صحة الانسان بشكل يفك اسرار الامراض الغامضة والمعقدة؟ ام ستكون زيارة الطبيب او المستشفى مجردة من الصعوبات والتعقيدات الحالية؟ ام ماذا سيكون عليه حال الاطباء والتعليم الصحي وغيره من مجالات الرعاية الصحية؟

[author image=”http://m-quality.net/wp-content/uploads/2015/08/Dr-Jabali-70×70.jpg” ] د.عبدالكريم الجبالي استاذ مشارك قسم ادارة وتقنية المعلومات الصحية-جامعة الدمام

من مقالات الكاتب :

الصحة إلكترونياً

سلامة المريض .. إلكترونياً

التعليم الطبي الإلكتروني (1)

التعليم الطبي الإلكتروني (2)

للمزيد عن د.عبدالكريم الجبالي انقر هنا  [/author]