تقرير الجودة الصحية_إعداد: د/ أميرة عبدالرحمن برهمين

 

نشأ على مر السنين الكثير من نظريات التعلّم، التي تحاول أن تفسر الحركات والسلوكيات المختلفة التي تتخذّها الأشياء من حولنا، وإيجاد العلاقة بين هذه الأشياء ومسببّاتها.

 وهكذا تعاقبت الكثير من النظريات العلميّة حتى نشأت نظرية الفوضى (Chaos Theory)، أكتشفت هذه النظرية على يد Edward Lorenz في عام 1960م.

وهي من النظريات المثيرة جداً، التي انتشرت حديثاً، ولاقت اهتماماً واسعاً: لتفسيرها الكثير من الأمور التي توّقفت النظريات العلمية السابقة عند تفسيرها، ولم تجد مُقنعاً يبرر حدوثها، ولتزيل الكثير من الغموض حولها، وأصبح من الممكن إيجاد الصّلة بين الأمور المتباينة، أو توقع الرابط بينها.

 تقّرر هذه النظرية أن بعض الأمور التي نراها مُختلطة وغير مترابطة قد تكون مُنظّمة، وتسير حسب نسق محّدد بعكس ما تبدو عليه. فالحركات التي تبدو عشوائية هي في الواقع تتبع مسارات غير خطيّة تتكرر وتتداخل بنسق معين غير متماثل تماماً، ولكنه منظّم جداً و كأنها تعود إلى نقطة جذب محدّدة بعد أن تنطلق عنها.

وتحاول نظرية الفوضى هذه الوصول إلى النظام الخفيّ غير الظاهر فيما يبدو عشوائياً من الظواهر، أو الأحداث، أو السلوكيات، أو الحركات، ووضع قواعد لدراسته والاستفادة من تطبيقاته. وهي وإن كان بها جانب فلسفي، إلا أن الجانب الآخر من علم الفوضى هذا يهتمّ بإيجاد أنماط محددة من الترتيب داخل الفوضى الظاهرة.

 وهذا أمر مثير حقاً، إذ إن النظام هو أساس في التكوين الكوني، فلا شيء يسير فيه دون نظام، ولا شيء فيه يجري بغير ترتيب، فسبحان الله الذي أحسن كل شيء خلقه!!

– قال تعالى: “وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” (40). يس

– وقال سبحانه: “اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ” (8). الرعد

إن ما يميز نظرية الفوضى في الإدارة على غيرها من نظريات الإدارة، هو أنها لا تعترف أصلاً بمبدأ المسئولية والمحاسبة، وإنما تكل ذلك إلى ضمائر الناس وسرائرهم، حيث تتحاشى البحث عن محاسبة المقصرين ، إلا من وقع في المصيدة وهو سيء الحظ. بل إن إيقاع المسئولية في ظل هذه النظرية هو أمر طويل المسار وكثير الأخطار، حتى أن الحكمة تقتضي قبول الحال على مساوئه عن محاولة تصحيحه، لأن تكلفة التصحيح أكبر بكثير من تكلفة قبول الوضع الراهن … على أنه ومع مساوئ نظرية الفوضى المنظمة إلا أن وجودها أفضل بكثير من غيابها، لأنها تترك مجالاً لـ (الفزعة) والنخوة والشهامة.

  إن أنظمة الكون معقّدة ومتداخلة، ولفهمها علينا تحليلها إلى عواملها المختلفة ومعرفة تأثير كل منها على غيره، إن بعض الأمور التي لا تبدو مهمّة، أو قد تكون تافهة وقد لا تثير اهتماماً لدينا، فإنها يمكن أن تؤثّر تأثيراً بالغاً في جانب آخر بعيد، وهذا ما توضحّه نظرية تأثير الفراشة الناشئة عن النظرية السابقة.

 

ةوى

 

ظاهرة رفيف الفراشة Butterfly Effect:

تقول بأن: “رفّة جناح الفراشة في مكان ما قد تُسبب إعصاراً في مكان آخر من الأرض بعد عّدة سنين”. فما هي إمكانية التنبؤ بالأحداث الطبيعية الكبيرة، عندما تنتج عن أسباب تافهة وصغيرة، كرفيف جناحي فراشة؟

قد يبدو الأمر مبالغاً فيه، ولكنه منطقي، فتيارات خفيفة تحت سطح البحر على عمق كبير أو إنشقاق لا يذكر في قشرة الأرض هناك تسبب فيضانات شديدة وكوارث، ككارثة التسونامي المعروفة، عبر انتقال الاهتزاز وتضاعف حجمه، وتسلسل انتقاله من مكان لآخر.

 والنظرية توضّح علاقة توافقية في اتجاه واحد، وتؤكّد تسلسلاً لأحداث معيّنة وتتاليها، لتنتج أثراً مختلفاً في الزمان والمكان، والصفة، والنوعية، والكمية، والأبعاد عن الحدث الأول، فأحداث صغيرة من شأنها أن تنتج كوارث كبيرة غير متوقّعة.

 يُمكن للإنسان التفكير في الكثير من الأمور التي يمكن أن تتغير حياته لو اختلف شيء من أحداث حياته في فترة منها، وتصوّر النتائج التي كان من الممكن أن تنتج لو اختلفت الشروط الابتدائية.

 ومن الأمثلة الفعليَّة لهذه النظرية بعضُ الظواهر الجويَّة في مناطق معينة، يليها ظواهر من نوعٍ آخر في مناطق أخرى بعيدة، كالعواصف الرَّعْدية فوق المحيط الهادي، والتي لوحظ أنَّه دائمًا ما تسبقها عواصف رعدية فوق القارة الإفريقيَّة.

 وما كشفه خبراء أمريكيُّون بجامعة “أوهايو” عن تغيُّرات مناخية طرأت على اليَمن ودول الجزيرة في أعقاب زلزال “تسونامي”، إِثْرَ تسبُّب الأخير في جعل المنطقة تحت تأثير الرِّياح الموسمية القادمة من المحيط الهندي، والمحملة بالأمطار الغزيرة على غرار ما كانت عليه قبل حوالي 5000 عام.

فالتجأ العلماءُ لاستخدام هذه النظريَّات عَبْرَ دراسة الرَّابط بين هذه الظَّواهر؛ للاستفادة منها في التنبُّؤ بالتغيرات الجوية، أو لتفادي الكوارث والخسائر النَّاجمة عن الفيضانات بدراسة العَلاقة بين المسبب “المؤثر الابتدائي” والنتيجة “الأثر النهائي”.  فما يبدو بالمجمل غير مترابط هو في الأصل مُترابط جدًّا ومتسلسل الأحداث، والبحث في التفاصيل هو ما يظهر هذا الترابط.

وحاليًّا يُحاول البعض الاستفادة من تطبيق هذا التأثير؛ لدراسة التغيُّرات في اقتصاد الأسواق، ومعرفة الأسباب التي يُمكن أن تؤثر بشكل غير مباشر بها، فارتفاعُ الأَسْهُم المالية أو تدنّيها قد تكون وراءه أسبابٌ أخرى خفيَّة غير تلك الظاهرة لنا.

 

الفرق بين الفوضى المنظّمة والفوضى الخلاّقة:

الفوضى المنظمة، من أهم خصائصها : بيروقراطية المنهج، موغلة في التنظير، بعيدة عن المراجعة والنظر في احتمالات بعدها عن الواقع. وهي للأسف متغلغلة في الأجهزة العامة لعدد كبير من البلدان النامية، وربما تكون هي أحد الأسباب الرئيسة لعجزها عن اللحاق بالبلدان المتقدمة؛ لأنها تظن من خلال تلك التنظيمات الوهمية أن الأمور على خير ما يرام. ولا يعدم المسوقون لنماذجها إمكانات إيهام أصحاب القرار بأنها كذلك.

أما الفوضى الخلاقة، يمكن وصفها بأنها نموذجا تنظيمياً تقوم على خلط الأوراق جميعها، للنظر إليها في بوتقة واحدة؛ ثم الخروج بوصفة من تلك الفوضى إلى خلق طريق واضح، يرضى الناس باتباعه بعد شعورهم بالضياع في تلك الفوضى السابقة.

إن بعض مؤسساتنا العامة، التي توالت عليها الأعباء التراكمية من تجارب مختلفة ذات مصادر متعددة، وتطبيقات متباينة، بحاجة إلى مثل هذا النوع من النماذج، وعلى وجه الخصوص ذات الاتصال المباشر بحياة الناس ومستقبل الأجيال، خاصة في المؤسسات الخدمية الكبرى.

 

المصادر:

  • الغامدي. شريفة. نظرية الفوضى (Chaos Theory)
  • كنان. نظرية الفوضى المنظمة Chaos Theory . 18 فبراير 2011
  • هيجان، عبد الرحمن بن أحمد. الإدارة ونظرية الفوضى المنظمة. مجلة التنمية الادارية. تصدر عن إدارة العلاقات العامة والاعلام بمعهد الادارة العامة. العدد 130 / صفر 1437هـ.
  • العجمي، فالح. الفوضى المنظمة والفوضى الخلاقة. جريدة اليوم. الأحد 11 مايو 2014 العدد 14940