استعرضنا في الجزء الاول (دور تقنية المعلومات في جودة الرعاية الصحية (1)…)

 أهمية الجودة للقطاع الصحي ونقاط التقاء تقنية المعلومات مع مفهوم واليات الارتقاء بجودة الخدمات الصحية. وحتى نكون أكثر تحديدا للقضايا الرئيسة للنظام الصحي  التي تؤثر في جودة ومستوى الرعاية وتشكل معاناة مستمرة للجميع بل تحديات حقيقية وان بدرجات متفاوتة  فسنجدها متمثلة في :

  1. الاخطاء الطبية والتي تقدر بعض الدراسات انها تحدث مثلا في اعطاء الجرعات لمريض من كل خمسة وغيره من الاخطاء.

وهذه الاخطاء تتكرر ما دام هناك اعتماد كامل على العامل البشري لتنفيذ الاجراءات السليمة بينما تستطيع التقنية تقديم الكثير لضبط الاخطاء وتفاديها الى درجة كبيرة.

  1. التباين والتفاوت  في مستوى وجودة العلاج والرعاية الصحية للحالات الطبية المتشابهة ففي دراسة لحالات سرطان الثدي اتضح وجود تقصير في استخدام Mammography  للتشخيص المبكر للمرض بعكس الارشادات المعلنة لهذه الحالات. ويضاف الى ذلك عدم توثيق او كتابة تقارير غير كاملة عن حالات الامراض المعدية مثلا فقد اشارت بعض الدراسات الى أن 43% من حالات الكبد الوبائي- ب- لا يتم تثبيتها وتقييدها في السجلات بالشكل المطلوب مع وجود اشكال اخرى للتباين والتفاوت في تقديم الرعاية الصحية.
  2. الفاقد حيث تزخر المؤسسات الصحية بأشكال مختلفة ليس اولها الاستهلاك الزائد عن الحاجة للمستلزمات الطبية اضافة للفحوص المخبرية الزائدة او المكررة كما يشمل الوقت الضائع في تكرار عمليات جمع بيانات المريض من قبل اطراف مختلفة في المؤسسة الصحية الواحدة.
  3. التأخير الناتج عن اسباب منوعة مثل حجز مواعيد زيارة الطبيب والتي عادة تكون متباعدة وايضا اجراءات التحويل الى الاختصاصي او الاستشاري تساهم في تأخير العلاج ويضاف الى ذلك قوائم الانتظار لمواعيد العمليات الجراحية وتشير احدى الدراسات الى ان 43%من الاخطاء الطبية التي يمكن تجنبها مرجعها للتأخر في اعطاء الدواء للمريض وما يصاحب ذلك من اعراض وتردي للحالة الطبية كما يحدث عند تأخير إعطاء الانسولين  بتأخير  3 ساعات عن الوقت الصحيح.
  4. الاحتكاك او التعطيل الاداري لتحقيق تنسيق وتوافق لإجراءات وقرارات تقديم الرعاية للمريض بين مختلف وحدات العمل الصحي الموزعة وغير الموحدة في نظام مشترك  فمثلا نقل المريض من وحدة /قسم الى وحدة/قسم يكون مصحوبا بمخاطر على السلامة اضافة لما يرافق ذلك من ازدياد في بطء الاجراءات الطبية لمعالجة الحالة اضافة للتعطيل المصاحب للتوثيق الورقي للحالات المعالجة.

ومع ذلك كله فقد سعت القطاعات الصحية في كثير من البلدان للتعامل مع هذه التحديات والمخاطر وكان التوجه نحو حلول توظف فيها التقنية بشكل عام وتقنية المعلومات بشكل خاص أكثر من واعد لا سيما مع التسارع المتزايد في انتشار وتطور ادوات وأجهزة وتقنيات الحوسبة والأتمتة في مختلف مناحي الحياة. ومما يجدر ذكره هنا ان استخدامات تقنية المعلومات في قطاعات الخدمات التجارية والاستهلاكية  قد طغت على تلك الاستخدامات في قطاع الخدمات الصحية مما اصبح دافعا لأصحاب القرار والمسؤولية ليبحثوا أكثر فأكثر عن كيفية تبني وتوظيف تلك الادوات التقنية وحلولها لرفع مستوى تقديم الخدمات الصحية وضمان  الالتزام بجودة عالية للخدمات والعمليات والاجراءات المتبعة في المؤسسات الصحية جنبا الى جنب مع ضمان سلامة المرضى وتحقيق معادلة  بين كفاءة وكلفة كل الرعاية الصحية.

وهنا قد يطرح سؤال حول مدى الثقة والاعتماد على هذه التقنية وهل ما تطرحه تقنية المعلومات من حلول قادرة على تغيير فعلي وحقيقي في شكل وجوهر خدمات الرعاية الصحية؟  وللإجابة على ذلك لابد من التأكيد على ان كثيرين من دعاة ومبادرات تطوير وتحسين بل واصلاح انظمة الرعاية الصحية يخصصون لتقنية المعلومات جزءاً من فكرتهم فيما يطرحون من رؤى ومبادرات معترفين بالدور الهام في تحقيق ما يسعون اليه وهذا ما نراه في تقارير معهد الطب الامريكي IOM الذي ربط تجاوز الهوة في جودة الخدمات الصحية باستخدام أكبر وأفضل لتقنية المعلومات. ولعل المبدأ الرئيسي هنا يكمن حوسبة وأتمتة  جمع وتداول ونقل واستخدام وحفظ واسترجاع بيانات المريض الكاملة  وحالته الصحية كاملة في نظام اليكتروني ذو مزايا متطورة تمكن من تحقيق المستوى المستهدف من الجودة والتي ترتبط بالأهداف التي استحدث وطبق كنظام  لأجلها. ومن المعلوم  هنا أن  التقييم  والنظرة  لأي نظام صحي  تكون عادة من خلال توفر وتحقق اهداف رئيسية تشمل :

  • سلامة المريض بتجنيب المريض أي أذى بسبب أو أثناء تلقيه العلاج.
  • الفعالية بربط الاجراءات الصحية بالمعرفة العلمية المثبتة فائدتها وجدواها عمليا.
  • الرعاية المرتكزة على ذات المريض واعتبار حاجاته وقيمه ومتطلباته.
  • الرعاية المقدمة في الوقت الصحيح والمناسب بتجنب التأخير والتعطيل.
  • كفاءة الخدمة والتي تتجنب اهدار الموارد  المتوفرة من أجهزة ولوازم طبية وغيره.
  • مساواة في تقديم الخدمة للجميع بدون تمييز عرقي او جغرافي أو اقتصادي او غيره.

ويمكن هنا تقديم بعض التوجيهات تجعل من الامر أكثر يسرا ومردودا، فمن ذلك بناء الانظمة الالكترونية بناء على حاجة الانسان المستخدم والمستفيد منه سواء المريض او الممارس الصحي ليصبح هو مدار ومركز التصميم التقني سواء كان العلاج او العمل في هذه المؤسسة او تلك وفي أي وقت، ويضاف الى هذا حوسبة و أتمتة العمليات والاجراءات والتخلص من العمل الورقي وعبئه فيما يرتبط بالسجلات الطبية للمرضى واشكالاتها مع التركيز على السجل الطبي الشخصي للمريض والذي يمكن الوصول اليه عبر الانترنت وفي كل حالات المريض ومن قبل أي جهة تقدم خدمات الرعاية الصحية لتكون مصدرا للعلاج والقرار ببقاء المعلومات متاحة ومتراكمة وبقاء المريض متواصلا مع الممارس الصحي وهذا يعني ضرورة الاستفادة مما يجمع من بيانات عن حالة المريض على المدى الزمني وذلك بتحليل تلك البيانات واستخلاص الدروس والعبر منها لأخذ القرار الطبي الافضل والمبني على البرهان.

وهذا يعني أن تركيز الخدمات الصحية وتمركزها حول الانسان كشخص وكينونة يعتمد على ” البيانات” التي تتحول الى معلومات والتي بدورها تنتقل الى معرفة توظف لمعالجة المريض فان تم المضي بهذه المعرفة الى بعد اكثر عمقا فإنها تتحول الى حكمة وخبرة. وكفاءة النظام الصحي ترتبط بعملية التعامل او معالجة البيانات بحيث تشمل مراحل جمع البيانات وتخزينها واستعادتها مما يضمن توفر الصفات / الخصائص التالية فيها بحيث تكون كاملة ومحدثة وصحيحة يمكن الاستفادة منها بتوفيرها للشخص المعني / المصرح له في الوقت المطلوب.

وهذه الخصائص ترتبط عضويا بما يمكن أن يقع من أخطاء طبية أو تباين في الخدمة أو اضاعة للوقت أو وفقدان للمصادر واللوازم  أو تأخير في الاجراءات – احتكاك. فحينما لا تكون البيانات – على سبيل المثال كاملة بمعنى وجود نقص فيها أو خطأ سينتج عنه القرار الناقص غير المكتمل أو القرار الخطأ مما يعني المزيد من الاخطاء الطبية وتدهور في جودة الخدمة الصحية المقدمة. فاذا أخفق الممرض في توثيق البيانات التي حصل عليها من المريض عن وجود حساسية لدى المريض فإن ذلك يعني أن الطبيب المعالج قد يصف دواءً ينتج عنه تفاعلات ومضاعفات تؤذي المريض.

بينما يمكن ان تقدم تقنية المعلومات الحل لإشكالية من هذا النوع – مثلا- من خلال  تصميم نظام  سجلات المرضى الالكتروني أو النظام الالكتروني لإدخال الاوامر متضمنا اليات تمنع خطأ  عدم ادخال البيانات بحيث  لا يتم السماح للممرض بإكمال تسجيل العلامات الحيوية للمريض ان لم يقم بتثبيت المعلومة الخاصة بالحساسية في وقتها وبالشكل الصحيح، أو من خلال آلية اصدار تنبيه للمرض بأنه لم يقم بتثبيت المعلومة التي حصل عليها من المريض، كما يمكن المزاوجة بين الطريقين أو اصدار تحذير للطبيب المعالج بنقص البيانات المتعلقة بالحساسية ليقوم هو كمسؤول عن حالة المريض بالقرار الصواب واستكمال البيانات او غيره من الاجراءات التصحيحية.

وهذا ينطبق على القضايا الاخرى المتعلقة بالبيانات وصفاتها فحينما لا يتم تعطيل اداري للإجراءات الطبية –  لا احتكاك – فان هذا يؤدي الى سلاسة وانسيابية في الاجراءات مما يعني فيما يعني تقليل مكوث المريض في المستشفى وتقليل الوقت المخصص لتقديم الخدمة وتوفير نفقات وكلفة العلاج وتوابع ذلك مما ينعكس مباشرة على الاداء العام والجودة الكلية لنظام الرعاية الصحية في المؤسسة. وتقدر بعض المراجع البحثية أن حوالي 20% من الانفاق على البنية التحتية يمكن توفيره في بيئة عديمة الاحتكاك اداريا ويمكن أن يزداد التوفير بنسبة تتراوح بين 10% الى 20% في حال تم تجنب الاخطاء الطبية واختلافات وتباينات المعالجة المذكورة أعلاه، ويضاف الى ذلك ما ينتج من ثقة بين مقدم خدمات الرعاية الصحية ومستقبلها ويؤدي ذلك الى المزيد من الاعتماد والثقة في النظام الصحي نفسه.

ولعل  عامل الاسراع بتبني حلول واستراتيجيات فعالة مبنية على تقنية المعلومات يصبح بل أصبح من الضرورة بمكان بحيث يتوجب على كل ممارس صحي أو ذي علاقة وشأن بالحقل الصحي سواء ادارياً، مالياً، تقنياً، أو طبياً أن يعيد بناء معرفته وخبراته وأولوياته كفرد أو مؤسسة لتأخذ تقنية المعلومات دورها ومكانها الذي يضمن له البقاء والمنافسة في عالم الجودة فيه لا مفر منها. وهنا لا بد من الاشارة الى العوامل الدافعة او الضاغطة لتبني هذه الاستراتيجيات ومنها انتشار تقنية المعلومات في بيئة العمل والحياة اليومية اضافة ازدياد توقعات المجتمع المحيط برفع مستوى الخدمات الصحية وازدياد معرفة ومطالبة المجتمع بخدمات  صحية رقمية مماثلة لما يوجد في قطاعات الخدمات البنكية والتجارية وغيرها.

وهنا لابد من التأكيد على الحقيقة المستمرة أن تبني تقنية المعلومات ليس هدفا بذاته بل وسيلة لتحسين الخدمة المقدمة للمرضى بالدرجة الاولى مما يتضمن ويعني التركيز على التصميم الفعال للبرمجيات والبنية التحتية وكامل النظام التقني وفق معايير جودة لكل مكونات وعمليات واجراءات ادماج وتوظيف التقنية في مجال الرعاية الصحية بحيث تكون المقولة الشهيرة في علم الحاسب منطبقة سلبا وايجابا “Garbage In  Garbage Out  ” مما يعني ضرورةً أن تقنية ذات جودة تؤدي الى رعاية ذات جودة فالرؤية للجودة شاملة للنظام بكل مكوناته ومن كل زوايا النظر اليه مع الاصرار على استمرارية عمليات تحسين الجودة سواء على مستوى تقنية المعلومات بتطوير ومواكبة كل مفيد وجديد تقنيا لخدمة الجودة  او على مستوى الاجراءات والعمليات والسياسات المتعلقة بتقديم خدمات الرعاية الصحية ذات الجودة المنشودة.