خريطة العالم الثقافية

 

  على الرغم من السرعة والكثافة التي قربت بها العولمة الثقافات العالمية من بعضها بعضا، بحيث صارت أكثر التصاقا، واحتكاكا، وتأثرا ببعضها أكثر من أي وقت مضي علي تاريخ البشرية، فإنه لا يزال للاختلافات الثقافية دور واضح لا يمكن إنكاره. ويري البعض أن هذه الاختلافات تسبب سوء اتصال، وسوء فهم كلما زاد الاحتكاك بين الناس من خلفيات ثقافية مختلفة في مجال المعاملات الاقتصادية التبادلية.

 

تنوع الثقافات أم تنميطها؟

 

    يعتقد الكثيرون أن الاختلافات التي تصادفهم في مجال العمل تعود إلي الطبائع الشخصية لدي المتعاملين معهم، إلا أن هذه الاختلافات ترجع إلي حد كبير إلي الاختلافات الثقافية، وهي اختلافات ليست بالهينة. غير أن الخريطة الثقافية لا تعني تنميط الآخر أو الثقافات الأخري بقدر ما تحاول الاقتراب منها.  إن الغربيين دائما ما يعتقدون أن الآسيويين في العموم هادئون ومتحفظون، وربما خجولون. وإذا تسني للمرء أن يكون فريق عمل مشتركا من آسيويين وغربيين، فسيجد الشكوي ذاتها من أن المشاركين الآسيويين لا يتحدثون كثيرا، ولا يحسنون تقديم تفضيلاتهم وخياراتهم الشخصية خلال الاجتماعات. غير أن هذه الآراء التنميطية لا تفسر الكثير من سلوك الأشخاص الذين نعدّهم مختلفين.

    إن معرفة وفهم الخريطة الثقافية تعد اقترابا تدريجيا ومنظما لفهم تحديات التواصل المشترك في مجال الأعمال، وهي تلك التحديات النابعة من الاختلافات الثقافية، وتقديم خطوات أكثر فعالية في التعامل معها. وتبدأ هذه العملية من إعادة تنظيم العوامل الثقافية التي تشكل السلوك الإنساني، و تحليل أسباب هذا السلوك نظريا. و هذا بدوره سيسمح بتطبيق استراتيجيات واضحة لتحسين كفاءة حل المشكلات المستعصية التي يسببها سوء الفهم للثقافات، أو لتجنبها كليا.

 

هناك ثمانية مقاييس تشّكل خريطة العالم الثقافية، وهي تبين مدى تنوع الثقافات و اختلافها من النقيض إلى النقيض. هذه المقاييس هي:

  1. التواصل: تواصل مباشر مقابل تواصل غير مباشر
  2. التقييم: تقييم سلبي مباشر مقابل تقييم سلبي غير مباشر
  3. الإقناع: النظرية أولاً مقابل التطبيق أولاً
  4. القيادة: المساواة والتكافؤ مقابل الهرمية
  5. إتخاذ القرار: التفاهم و التراضي مقابل السلطوية والفوقية
  6. الثقة: ثقة قائمة على العمل مقابل ثقة قائمة على العلاقات الشخصية
  7. المعارضة: المواجهة مقابل تجنب المواجهة
  8. تنظيم الوقت: الوقت المحدد مقابل الوقت المرن

 

عند إستخدام المقاييس السابقة في تحليل ثقافة بلد ما مقارنة بثقافة بلد آخر، يمكن فهم مدى تأثير ثقافةالبلد على التعاملات الدولية و الرسمية، وكيفية تجنب المواقف المحرجة المتعلقة بالتنوع الثقافي داخل عدد كبير من الشركات العالمية، المستشفيات، والمؤسسات، والبنوك الكبري، مثل الأمم المتحدة، والبنك الدولي على سبيل المثال.

 

أولاً:التواصل: تواصل مباشر مقابل تواصل غير مباشر

  • التعامل مع ثقافات التواصل المباشر: الشفافية والصراحة وتوضيح الرسالة بشكل دقيق.
  • التعامل مع ثقافات التواصل اللامباشر: قراءة ما هو ضمني وفهم اللامنطوق، و إستيعاب لغة الجسد.
  • التواصل مع فريق متعدد الجنسيات: إعتماد التواصل المباشر وتوثيق كل ما يجري كتابة.

 

ثانياًً:التقييم: تقييم سلبي مباشر مقابل تقييم سلبي غير مباشر

  • التعامل مع ثقافات التقييم السلبي المباشر: الشفافية والصراحة والتوازن بين السلبيات والايجابيات.
  • التعامل مع ثقافات التقييم السلبي اللامباشر: تقديم التقييم بشكل تدريجي، و التطرق إلى الايجابيات قبل الحديث عن السلبيات.
  • تقييم فريق متعدد الجنسيات: إعتماد التقييمات السابقة (كلاهما) لتتناسب مع الثقافات المختلفة.

 

ثالثاًً: الاقناع: النظرية أولاً مقابل التطبيق أولاً

  • إقناع أصحاب التفكير النظري (النظرية أولاً): إعلامهم بأسباب تكليفهم بالمهام، والأهداف الرامية منها قبل البدء بتنفيذها.
  • إقناع أصحاب التفكير العملي (التطبيق أولاً): إطلاعهم بكيفية تنفيذ المهام على أكمل وجه.
  • إقناع فريق متعدد الجنسيات: التنقل بين المباديء النظرية والأمثلة العملية لإقناع أصحاب الثقافات المختلفة بوجهات النظر المتعددة لتغيير أفكارهم أو تقبّل طرق عمل مختلفة.

 

رابعاً:القيادة: المساواة والتكافؤ مقابل الهرمية

  • التعامل مع أشخاص من مجتمع أفقي يميل إلى المساواة: إتباع أسلوب قيادة الفريق ( القائد هو جزء من الفريق الذي يقوده) والمساوة والتكافؤ هي مفتاح التعامل بدون أي تحفظات أو تسلسل هرمي.
  • التعامل مع أشخاص من مجتمع هرمي الإدارة: إتباع أسلوب قيادة الفرد (القائد الموجود على قمة الهرم) و التواصل حسب التسلسل الهرمي.
  • قيادة فريق متعدد الجنسيات: إتباع توصيات الإدارة الهرمية، التي هي في العادة إدارة رسمية وأكثر انضباطاً.

 

خامساً: إتخاذ القرار: التفاهم و التراضي مقابل السلطوية والفوقية

  • التعامل مع أشخاص من مجتمع قائم على التفاهم والتراضي: تتم استشارة الجميع بحيث تطول مدة إتخاذ القرار، لكن تنفيذه سريع جداً بمجرد إتخاذه.
  • التعامل مع أشخاص من مجتمع قائم على السلطوية والفوقية: إتخاذ القرار يتم من قبل القائد وحده لذلك يكون سريع جداً، وقد يطلب القائد من الفريق التصويت على اتخاذ القرار في حالة انقسامهم، ويكون القرار بالأغلبية، و يؤخذ على هذا النوع من القرارات البطء في تنفيذها.
  • إتخاذ القرار من قبل فريق متعدد الجنسيات: يتم اتخاذ القرار حسب الموقف نفسه وما يلائمه سواءً أسلوب المشاركة أو أسلوب الشخص الواحد.

 

سادساً:الثقة: ثقة قائمة على العمل مقابل ثقة قائمة على العلاقات الشخصية

  • التعامل مع أشخاص من مجتمع قائم على (الثقة العقلية) علاقات العمل: تنبع الثقة من خلال التعامل مع الأشخاص أثناء العمل وتُبنى الثقة على أساس مهارات الشخص وجدارته ومدى استقامته وذكاؤه وصدقه.
  • التعامل مع أشخاص من مجتمع قائم على (الثقة القلبية) علاقات شخصية: تنبع الثقة من خلال التعامل الانساني الشخصي، وتُبنى على أساس القرب العاطفي أو مشاعر الصداقة بعيداً عن العمل.
  • قيادة فريق متعدد الجنسيات: يتم بناء الثقة من خلال العلاقات العملية والشخصية معاً. رغم أن الدمج بين العلاقات الشخصية وعلاقات العمل تعتبر في بعض الثقافات دليل على عدم المهنية ويهدد بتضارب المصالح.

 

سابعاً:المعارضة: المواجهة مقابل تجنب المواجهة

  • التعامل مع ثقافات المواجهة: إتاحة الفرصة للأشخاص للتعبير عن معارضتهم بكل صراحة. أكثر العبارات شيوعاً بين هذه الثقافات هي العبارات القوّية مثل: قطعاً، تماماً، أكيد….
  • التعامل مع ثقافات تجنب المواجهة: استخدام أسلوب العصف الذهني. و أكثر العبارات شيوعاً هي الكلمات المواربة مثل: جزئياً، إلى حد ما، وغيرها ….
  • التعامل مع المعارضة مع فريق متعدد الجنسيات: إتاحة الفرصة للمعارضين بالتعبير عن آراؤهم بأي شكل من الأشكال المناسبة لهم حسب ثقافاتهم.

 

ثامناً: تنظيم الوقت: الوقت المحدد مقابل الوقت المرن

  • تنظيم الوقت في الثقافات التي تحترم الوقت : كل شيء يسير في الغالب طبقاً لما هو مخطط له مسبقاً.
  • تنظيم الوقت في الثقافات ذات النظرة المرنة للوقت: يجب إعتماد سياسة إدارة الأولويات فالأهم أولاً ثم المهم.

 

تنوعات غير مرئية في بيئة عمل المستشفيات:

 

   لا يخفى على الجميع مدى التنوع الثقافي في بيئة عمل المستشفيات، حيث باتت بعضها تتصف بكونها بيئة عالمية تضم بين جنباتها عدد كبير من العاملين من مختلف الجنسيات والثقافات. وهذا التباين الثقافي قد يخلق بعض سوء الفهم بين العاملين نتيجة للاختلاف الثقافي بينهم وإنعدام التواصل الايجابي المرغوب. لذلك كان من المحبذّ التعرف على تمايز الآخر من خلال التعرف علي بيئته، والتعايش معها، وصولا إلى تفهمها.

 

كل الثقافات الانسانية تتسم بالثراء والاتساع والتنوع الذي يجعلها مصدراً لا ينضب للتجارب الثرية والتعلم المستمر، والقائد الناجح الذي يدير أي مؤسسة (أو مستشفى) متعددة الجنسيات عليه تنمية القدرة على فك شيفرة الاختلافات الثقافية في نفسه كي يستطيع التعامل بفعالية مع العملاء والزملاء والزوار وكافة الشخصيات. فربما يعمل المرء لسنوات، وربما لعقود، عبر ثقافات متنوعة، وأن يسافر بشكل منتظم من أجل العمل، ومع ذلك يبقي غير واع بتأثير الثقافة فيه. مثل هؤلاء يعملون داخل إطارهم، ويرون الآخرين من منظورهم الخاص، ويعزون أي اختلاف أو تنوع إلي الطبائع الشخصية. لكن هذا الاعتقاد ليس ناتجا عن الكسل، وإنما ناتج عن عدم رغبة هؤلاء في تثقيف أنفسهم بثقافات الآخرين، فيستسلهون التركيز علي الاختلافات الشخصية دون رؤية المنظومات الثقافية التي تحكم الأشخاص. لذافإن هذه الاختلافات غالبا ما تكون غير مرئية بالنسبة للكثيرين، وتحتاج فقط إلي القدرة والرغبة في تعلم ثقافات الآخرين. والخلاصة أن لا فكاك من التنوع الثقافي، ولا مهرب من تعايش البشر مع اختلافاتهم.

 

المصدر:

ماير،ايرين. خريطة الثقافة .. سبر الحدود غير المرئية في مجال الأعمال. مترجم.2014م

Meyer, Erin. The Culture Map: Breaking Through the Invisible Boundaries of Global Business Hardcover May 27, 2014