تخفي الصورة الزاهية للأطباء خلفها معاناة قلما ينجو منها طبيب، وقد يجني المجتمع من تبعاتها الكثير. وبداية، اسمح لي أيها القارئ الكريم أن أشرح لك بعض المصطلحات التي سترد في هذا المقال. فإن رحلة الطب تبدأ من دراسة بكالريوس الطب والجراحة لمدة سبعة سنوات، تختتم بقضاء سنة من التدريب العام في تخصصات الطب العامة (سنة الامتياز)، وحينها يتخرج الطبيب برتبة طبيب عام. بعدها، من أراد التخصص في تخصص محدد كالباطنة أو الجراحة أو الأطفال أو الطب النفسي الخ فيلزمه الالتحاق ببرنامج الزمالة (يعادل الدكتوراه) لمدة أربع لخمس سنوات بحسب التخصص. وفي تلك المرحلة، يسمى طبيباً مقيماً متدرباً. ثم بعد التخرج، ينخرط في دراسة تخصص دقيق فرعي بعد الدكتوراه لمدة سنتين لثلاث سنوات. وفي مرحلة الدكتوراه والزمالة الدقيقة بعد الدكتوراه، يخضع الطبيب المتدرب لسلسلة من وسائل التقييم طوال مدة التدريب تشمل الامتحانات الكتابية والإكلينيكية والتقييم المستمر المقنن من عدد من الأطباء الاستشاريين الذين يتدرب تحت إشرافهم في المستشفيات المتعددة التي يتنقل بينها. وكل ذلك يتزامن مع عمل إكلينيكي شاق يمارسه المتدرب في العيادات وأجنحة المستشفيات وغرف العمليات، بالإضافة للمناوبات أثناء الليل وفي عطل نهاية الأسبوع في المستشفيات، وفي المجمل، فإن الطبيب يقضي أربعة عشر سنة من عمره على الأقل بعد الثانوية العامة، في الدراسة والتدريب متزامنة مع العمل الاكلينيكي الشاق، حتى يحصل على ‏التصريح بممارسة مهنة (استشاري) من الجهة الصحية الرسمية المختصة (وهي لدينا الهيئة ‏السعودية للتخصصات الصحية). ثم بعد أن يصبح استشارياً، فإنه مطالب بالقيام بالمهام الإكلينيكية في علاج المرضى في العيادات وأجنحة المستشفيات وغرف العمليات بما في ذلك المناوبات أثناء الليل وفي عطل نهاية الأسبوع، بالإضافة للقيام بالمهام التعليمية والتدريبية لطلاب الطب والدراسات العليا، وإجراء الأبحاث الطبية، والمهام الإدارية المتعددة من رئاسة الفرق الطبية والأقسام واللجان المتعددة. ومع ذلك، يحتاج الطبيب مهما كانت رتبته، لتجديد الترخيص الطبي لمزاولة مهنة ‏الطب كل سنتين لحين تقاعده؛ بعد أن يثبت استمرار أهليته، وعدم ارتكابه لمخالفات مهنية، ومواكبته ‏لمستجدات الطب المتسارعة بحضور ما لايقل عن ستين ساعة من أنشطة التعليم الطبي المستمر.‏

ولذلك فإن الأطباء كانوا ومازالوا وسيظلون عملة نادرة في العالم أجمع. وعلى سبيل المثال، ‏سيصل العجز في عدد الأطباء في أمريكا وحدها إلى مائة ألف طبيب بحلول عام 2030؛ فإذا كان ‏هذا العجز الكبير في بلد يعد قبلة للأطباء المتميزين، فما بالك بغيرها من الدول. في المقابل، تفقد ‏أمريكا 400 طبيب سنوياً على الأقل بسبب الانتحار؛وذلك لأن ممارسة مهنة الطب تزيد معدلات الانتحار بنسبة ضعفين لخمسة أضعاف، وبالذات لدى الطبيبات النساء،وذلك مقارنة بعامة الناس، وبدرجة أقل مقارنة بالمهن الأخرى، كما أن أضعاف هذا الرقم يغادرون مهنة ‏الطب مبكراً، بينما يعاني نصف من بقي ممارساً لمهنة الطب من الاحتراق المهني. 

وبالإضافة لما أسلفته آنفاً، فإن مهنة الطب في الوقت الحاضر قد تعقدت عما سبق، فأصبح الطبيب واقعاً بين “مطرقة” ألم يتجدد كل يوم مع سماع أنات مريض يتألم ومعاناة عائلة فقدت حبيبها أو كادت، و”سندان” عالم الحوكمة الطبية والتأمين وشكاوى المحاكم. فالطبيب مطالب دوماً بالقيام بدور الحكيم الناصح لمرضاه وأهاليهم، المتفهم لمعاناتهم، لكنه في نفس الوقت يحترق داخلياً عندما تُعلق به الآمال ولا يملك أن يفعل شيئأً لتأجيل لحظة المعاناة أو الأجل المحتوم؛ ثم لمّا يموت مريضه لا يجد من يُعزيه بفقده بل قد يُبادره بعض أهالي المرضى باللوم والتهديد بشكاوى المحاكم. ولذلك قد تستغرب من جمود مشاعر بعض الأطباء تجاه معاناة المرضى، فهم ربما أصيبوا بما يسمى بنقصان التشاعر أو التعاطف مع المرضى كمحاولة يائسة للتكيف مع سيل حالات الفقد العاطفي التي تمر بهم مع مرضاهم؛ لكن هيهات أن يقيهم ذلك من الاحتراق المهني في نهاية المطاف. كما أنهم معرضون بسبب ضغوط العمل لارتكاب الأخطاء الطبية، والإصابة بالتعب المزمن، وإساءة استعمال المواد، والاضطرابات النفسية كالاكتئاب والقلق.

وقد أظهرت دراستان سعوديتان حديثتان بهذا الخصوص، نُشرت تفاصيلها في أربعة مقالات علمية محكمة‎(AlosaimiFD et al., 2015/2018)‎ ، نتائج مهمة، من أبرزها:

١) بلغ متوسط نتائج مقياس التوتر المحسوس لدى 935 طبيب متدرب شاركوا في دراسة الأطباء المتدربين : ( 22.5 )، وهو ما قد يعادل تقريباً ضعف مستويات التوتر لدى عامة الناس، ومقارب أو يزيد قليلاً عما يحصل للأطباء المقيمين في مناطق مختلفة من العالم. بينما بلغ متوسط نتائج مقياس التوتر المحسوس لدى  582طبيب استشاري شاركوا في دراسة الأطباء الاستشاريين: (17)‏.

٢) ارتبط ارتفاع مستويات التوتر بكون الطبيب المتدرب: سعودي الجنسية، أو أنثى؛ وكذلك بارتفاع حجم العمل، والحرمان من النوم، والاستياء من سوء العلاقة بزملاء العمل والبرنامج التدريبي، والرغبة المتكررة في ترك مهنة الطب بالكلية. وشملت أهم الضغوط الرئيسية، ما كان مرتبطاً بالعمل، والجانب الأكاديمي، والحنين للوطن. وقد فكر خُمس العينة ملياً إما بتغيير التخصص الدقيق أو ترك مهنة الطب بالكلية.

3) ارتبط ارتفاع مستويات التوتر لدى الأطباء الاستشاريين بكون الطبيب الاستشاري سعودي الجنسية، أو أنثى، أو أصغر سناً، وبضغوط بيئة العمل، وضغوط الحياة بشكل عام، وبالرغبة في الموت، وبتخصصات معينة كتخصص النساء والولادة وطب الأسرة والأشعة. كما أن ثلثي عينة الدراسة لا ينامون أكثرمن ستة ساعات يومياً، ويعاني 85% منهم من ضغوط العمل ثم الأسرة والضغوط المادية والصحية والأكاديمية. وقد أرجعوا ضغوط العمل لكثافة العمل، وعدم تعاون إدارة المنشأة الصحية معهم، وضعف الراتب، والأعباء غير الإكلينيكية كالأعباء البحثية والتعليمية.

ونتيجة لضغوط بيئة العمل، فقد فكر ملياً أكثر من نصف المشاركين بالدراسة في تغيير المنشأة الصحية التي يعملون بها، بل بادر أكثر من ثلثهم في تغيير المنشأة الصحية التي يعملون بها؛ كما أن بعضهم فكر ملياً بل بدأ الإجراءات الفعلية للعمل خارج السعودية أو التوجه لعمل إداري غير إكلينيكي.

4) في الشهر السابق لإجراء دراسة الأطباء المتدربين، كان لدى 23% من عينة الدراسة رغبة بأن يموتوا، بينما كان لدى 11% منهم رغبة بإنهاء حياتهم بأنفسهم. في المقابل، في السنة السابقة لإجراء دراسة الاستشاريين السعوديين، كان لدى 6% من عينة الدراسة رغبة متكررة بأن يموتوا، بينما كان لدى 1% منهم رغبة متكررة بأن ينهوا حياتهم بأنفسهم.

5) أظهرت كلا الدراستين أن الأطباء المتدربين والاستشاريين على حد سواء يستخدمون بشكل عام وسائل تكيفية ناضجة للتعامل مع الضغوط أكثر من استعمالهم للوسائل سيئة التكيف، ومع أن أغلب المشاركين بهاتين الدراستين لم يتلقوا قط أي تدريبات حول إدارة الضغوط؛ فإن ‏من تلقوا توعية أو تدريباً في مواجهة الضغوط لم يكونوا أحسن حالاً من غيرهم. وهذا يشير إلى ‏أن المشكلة ليست في كفاءة الأطباء النفسية، وإنما تكمن غالباً في حجم الضغوط الهائلة التي يقاسونها. ‏

وقد كانت أكثر الوسائل نجاحا في تخفيف الضغوط هي وجود السلوى في المعتقدات الدينية ذات الصلة وممارسة شعائر الدين كالصلاة، وكذلك التخطيط والتكيف الفعال، وقبول المعاناة. بينما كانت أكثر الوسائل ارتباطاً بزيادة المعاناة من الضغوط هي: إلهاء النفس وصرف الانتباه عن المطلوب فعله، ولوم الذات، والتنفيس؛ وقد ازداد استعمالها لدى النساء والأصغر سناً.

 وبعد استعراض الواقع الحالي، اسمحوا لي أن أطرح بعض الاقتراحات استئناساً بنتائج هذه الدراسات المحلية وغيرها من الدراسات:

  • لقادة القطاع الصحي : مما يُحمد لدولتنا الكريمة، استثمارها الضخم المبكر في تأهيل أطباء سعوديين على مستوى عالٍ جداً، فساهموا في توطين الخدمة الصحية والتدريب الطبي؛ إلا أننا بحاجة ماسة للحفاظ على هذه الإنجازات، وقد تضافرت نتائج الدراسات كما أسلفت، على أن العامل الأهم لمعاناة الأطباء وفقد المجتمع لهم إما جسداً أو روحاً، هو ضغوط بيئة العمل، ولذا فإن أهم ما يشار له في هذا السياق، هو تمكين الأطباء من القيام بمهنتهم الإنسانية كأطباء، وألا تجبرهم الأنظمة البيروقراطية والتسلط الإداري للتحول لموظفين بنفس تجاري بحت. والمطلوب هنا، هو توفير الأمان بكل أنواعه ومن أهمها الأمان من الاعتداء اللفظي والجسدي والتنمر والتسلط الإداري بكل أشكاله ، وكذلك توفير الأمان المادي، فلا يصح أن يتسول الطبيب حقوقه المادية، وينبغي أن يُمكن من العيش الكريم أسوة بالأطباء في جميع أنحاء العالم، كما أنه ينبغي أن تُحفظ له كرامته، ويُعامل بإنسانية عندما يُشتبه بحصول خطأ طبي، وقد فصلت الكلام في ذلك بمقال آخر عنوانه (لماذا أصبح بعض أطبائنا جبناء؟)، وكذلك، ينبغي سن أنظمة إدارية مرنة تراعي ظروف الطبيبات بالذات.

 

  • للهيئة السعودية للتخصصات الصحية: ينبغي أن تبادر للعب الدور المنشود منها في حماية حقوق الأطباء والممارسين الصحيين بشكل عام، وبشتى الطرق. كما أنها مطالبة باعتماد برامج تدريبية في مجال إدارة الضغوط أثناء مرحلة التدريب للتخصصات الطبية، واشتراط توفر مراكز بهذا الخصوص كأحد شروط الاعتراف بالمستشفى كمركز تدريبي. كما أنها مطالبة بطمأنة الأطباء بكل طريقة ممكنة، إن مرض الطبيب أياً كان، وطلبه للمساعدة بهذا الشأن من الطبيب النفسي أو غيره لن يؤثر بحال من الأحوال على الترخيص له بمزاولة مهنة الطب. وأن ما يؤثر على ذلك فقط هو وجود سلوك مؤذٍ للمريض أياً كان سببه.

 

  • للأطباء: أثبتت هذه الدراسات المحلية أن أهم سلاح بيد الطبيب تجاه ضغوط مهنة الطب أن يتلمس الجانب الروحي في مهنته، ويحتسب فيها ما يلقاه، ويستعين بالصبر والصلاة. وشعاره حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ” من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه ‏في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ماكان العبد في عون أخيه”.‏كما أنه مطالب بالاهتمام بصحته النفسية والجسدية، وطلب المساعدة من المختصين متى احتاج إليها.

 

  • للمجتمع: أنتم سند الأطباء، وهم عضدكم في الملمات لا قدر الله؛ فلا تسمحوا لأحد بإيذاء الأطباء بأي طريقة كانت. وبدعمكم، ستحافظ مهنة الطب على دورها المهني الإنساني النبيل كما كان الأمر كذلك منذ فجر التاريخ.

خاتمة ” الأطباء هم إحدى ثروات المجتمع، فلنحافظ عليها لكي نجني ثمرتها عند لحظة المرض لا قدر الله”

والله من وراء القصد