يواجه الكادر الطبي سيلاً من الضغوطات التي من دورها تفقده بل و قد تنسيه الهدف السامي الذي قاده للعمل في المجال الطبي. يبدو ذلك جلياً في كثير من القصص التي نسمعها عن سوء معاملة بعض الأطباء و الممرضين للمرضى. فإن نظرنا لساعات العمل مثلاً، نجد الكثير من العاملين في القطاع الطبي يعملون ساعات أطول من غيرهم في باقي القطاعات الأخرى. و هذا بحد ذاته كفيل بأن يؤثر على نفسيتهم، دون التطرق لعوامل أخرى منها الحوافز و التطوير المهني. و إن نظرنا إلى طبيعة عملهم، فإن أقل ما يمكننا فعله هو الرأفة بحالهم، إذ يتعرضون و يعالجون شتى أنواع الأمراض. أما إذا نظرنا إلى الفئة التي يتعاملون معها، نجد أنهم في صراع نفسي لا منتهي. فهم إما يتعاملون مع من فقد الرغبة في الحياة، أو مع من يتعالى و يتأمرعليهم، أو مع أولئك الذين يصارعون الأقدار متشبثين بأضعف أمل. لعل الأصعب هي تلك المواقف التي يجدون أنفسهم فيها مضطرين لمواجهة مرضاهم و أهليهم و صفعهم بذاك الخبر المؤلم. أقول هذا وأستطرد، هناك بالطبع المتفائلين جميلي التعامل، لكن للأسف يبقون الأقلية.
بات الوضع في القطاع الصحي كالحديقة التي شح ماؤها، و غابت شمسها. لا تزال الأزهار موجودة، لكنها ذاوية ذابلة لا حياة فيها. أصبح الوضع رسماً تصويرياً لمقولة “فاقد الشيء لا يعطيه”. فكادرنا الطبي فاقد للحماس و الراحة و الأمل. فكيف لنا أن نتوقع منهم بذل ذلك كله؟
يعاني كادرنا الطبي ما يسمى “الإحتراق الوظيفي” و هو نوع من أنواع الضغط النفسي في العمل. فهو حالة من الإرهاق البدني أو العاطفي أو العقلي نتيجة توقعات العمل الغير واضحة، قلة الدعم و المحفزات، ديناميكيات بيئة العمل المضطربة و عدم التوازن بين العمل و الحياة الشخصية. و لعل أخطر تبعياته الأخطاء الطبية، ضعف الإنتاجية، التوتر و العصبية مما ينعكس واضحاً في تعاملهم مع مرضاهم.
إدراكاً منها بخطورة الوضع، بدأت بعض المنظومات مشكورة ببعض المبادرات التي من شأنها رفع الروح المعنوية لهم مثل تأسيس إدارة السعادة و الاحتفال بيوم الطبيب و يوم التمريض. لا أبخس هذه المبادرات حقها و أثرها، لكني لا أراها تقوم على قاعدة راسخة و شاملة. مبادرات معزولة و مقيدة خلف جدران ذلك المشفى أو المركز التي تطبق فيه. قد يكون هذا الوضع مقصوداً. قد يكون الهدف تجربة أكثر من مبادرة ثم اختيار الأفضل منهم. أتمنى. لكن ما أتمناه فعلاً هو برنامج وطني على نطاق أوسع غير مقيد بأُطر أو جدران. برنامج يأخذ بعين الإعتبار كل ما تم طرحه و يبني على أساسه خطة إستراتيجية متكاملة المحاور، أذكر منها تدني الأجور، ساعات العمل، فرص التطوير المهني و التدريب.
و كأية إستراتيجية سليمة، سيأخذ صياغتها وقتاً، و سيكلف تطبيقها مالاً، لكنه إستثمار لا غنى عنه. فالنتيجة هي صحة المواطن. و هل للمواطن حق أهم من صحته؟

 

دمتم بود 

أ/مي الصقير .