يعد مفهوم تطبيق الجودة عنصراً مهماً في تقديم الرعاية الطبية المثلى للمريض وتقليل احتمالات تعرضه للأخطاء. ومن هذا المنطلق، تعتمد الكثير من المنظمات الصحية المتقدمة على بعض الأنظمة والأدوات المعروفة في الجودة وتطبيقاتها للوصول إلى ذلك الهدف والذي لا يمكن أن يأتي إلا بتكاتف جهود جميع أفراد المنشأة الصحية من أطباء وممرضين وفنيين وإداريين بمختلف مستوياتهم. هذا وتمثل عيادات مايو (MAYO CLINIC) في الولايات المتحدة الأمريكية نظاماً صحياً متميزاً بحد ذاته ونموذجاً يضرب فيه المثل في جودة تقديم الرعاية الصحية، وهذا ما دعاني بصفتي أحد الأطباء المهتمين بمجال إدارة الجودة وسلامة المرضى إلى دراسة العوامل التي قفزت بهذا النظام الصحي إلى أعلى المستويات مما أثر إيجاباً على مستوى الخدمة الصحية المقدمة للمريض والنزول بمعدل الأخطاء الطبية لديهم إلى نسب متدنية.

تصنف عيادات مايو على أنها مؤسسة رعاية طبية غير ربحية وتقوم على مجموعة متميزة من المبادئ التي اعتمد عليها الإخوان (مايو) في تأسيس عيادتهم على مدى ما يزيد على قرن من الزمان ولايزال معمولاً بها حتى الآن. وتقوم عيادات مايو بعلاج أكثر من 520 ألف مريض من مختلف أنحاء العالم وذلك بطاقم طبي يفوق 3200 موظفاً من صحيين وإداريين وباحثين في مختلف التخصصات ويشاركون كفريق عمل واحد، كما تعتمد عيادات مايو على سجل طبي إليكتروني متقدم يشرف عليه فريق من المختصين في مجال المعلوماتية الصحية ويقدم أفضل الوسائل والتقنيات المتقدمة والمبتكرة في التشخيص والعلاج. إضافة إلى ذلك، يندرج تحت مظلة عيادات مايو خمس مدارس وكليات طبية تحمل على عاتقها مهمة التدريب والتعليم الطبي المستمر لأفراد النظام وغيرهم وتركز على الجانب العلمي البحثي الذي يعد أحد أهم الركائز الأساسية في بناء نظام صحي ذي جودة عالية.

وبالبحث في بعض المبادئ والمعايير التي بنت عليها عيادات مايو قاعدتها في جودة تقديم الرعاية الصحية، نجد أن كثيراً منها يستمد بشكل أساسي من نظام الجودة العالمي آيزو-9001 والذي يعد من أول وأكبر الأنظمة العالمية الرائدة والمعروفة بتطبيقات الجودة في القطاعات الخدمية بشكل عام وفي القطاع الصحي بشكل خاص. ويمكن تلخيص بعض هذه المبادئ كالتالي:

  • التركيز على العميل ((CUSTOMER FOCUS: ويقصد بمصطلح (العميل) في القطاع الصحي المريض وعائلته بالدرجة الأساس، إضافة إلى أفراد الطاقم الطبي كاملاً. فكلما كان النظام الصحي قادراً على تلبية احتياجات المريض والموظف على حد سواء، كانت المحصلة النهائية من تقديم الخدمة الطبية مرضيةٌ إلى حد كبير لكلا الطرفين. وبناء على ذلك، ركزت عيادات مايو وبشكل كبير على التعامل مع المريض ككل وليس المرض فقط، وإعطاء الوقت الكافي لعلاج المريض والاستماع إلى شكواه بكل تعاطف واحترام. كما يسند لكل طبيب مسؤولية متابعة مرضاه بشكل تام والتنسيق مع التخصصات الأخرى حسب الحاجة والتأكد من استجابة المرضى للخطة العلاجية وحصولهم على جميع المعلومات المتعلقة بأمراضهم من نتائج فحوصات وغيرها. كما تتعدى مسؤولية أفراد الطاقم الطبي في نموذج عيادات مايو إلى خارج منظومة النظام الصحي لتشمل مهمات تثقيفية ووقائية وعلاجية لأفراد المجتمع كل بحسب تخصصه.

 

  • القيادة الفعالة (EFFECTIVE LEADERSHIP): يركز هذا المبدأ الهام من مبادئ نظام الجودة آيزو-9001 على التزام أفراد الإدارة وصناع القرار في المنشأة الخدمية بتطبيق معايير الجودة وتطويرها. ومن هذا المنطلق حرص نموذج الرعاية الصحية في عيادات مايو على بناء وتوفير قيادة طبية فعالة يكون أحد أهم أهدافها تطبيق الجودة في كافة المجالات، ومن الأمثلة على ذلك الدعم غيرالمحدود لكل ما من شأنه تطوير القدرات والمهارات للعاملين في النظام الصحي وتدريبهم المستمر بهدف الوصول إلى أعلى المستويات في جودة تقديم الرعاية الصحية للمريض إضافة إلى تعزيز ثقافة العمل بروح الفريق الواحد. ويمكن القول بأن التزام عيادات مايو بمبدأ القيادة الفعالة يعتبر حجر الأساس في تميز نظامهم الصحي في تطبيق مفهوم الجودة وسلامة المرضى.

 

  • إشراك الأفراد المعنيين بتقديم الخدمة ((INVOLVMENT OF PEOPLE: ويستخدم هذا المبدأ من مبادئ الجودة آيزو-9001 في النظام الصحي وذلك بأن يشارك جميع الأفراد بمختلف مستوياتهم وتخصصاتهم في دفع عجلة المنشأة إلى الأمام بهدف الحصول على أعلى المستويات في تقديم الرعاية الصحية ويكون لكل فرد مسئولية واضحة ومحددة للوصول إلى ذلك الهدف كل بحسب إمكانياته وقدراته. ومن هذا المنطلق، تقوم عيادات مايو بتعزيز ثقافة العمل الجماعي لديها في مختلف المستويات وتستند معظم الأنشطة على فرق عمل تخصصية هدفها الأول والأخير الارتقاء بمستوى جودة الخدمة المقدمة، كما أنشئت نظام إليكتروني موحد للإبلاغ ((EHR يدعو أفراد الفريق الطبي للمشاركة في تبادل المشاكل التي تعترضهم والحلول الممكنة للتغلب عليها في جو ودي يحسسهم بأهمية وقيمة الاستماع لهم ولأراءهم من قبل المسؤولين.

 

  • اعتبار النظام كمجموعة عمليات (PROCESS/SYSTEM APPROACH): ويعتمد هذا المبدأ من مبادئ الجودة آيزو-9001 على مفهوم منطقي وهو أن أفضل النتائج يمكن الوصول إليها بالتعامل مع النظام كمجموعة من العمليات المترابطة وعليه فإن معرفة متطلبات وسير عمل ومخرجات كل عملية في النظام يسهل تشخيص مواضع الخلل واختيار الأدوات المناسبة لحلها. وقد قامت عيادات مايو بتطبيق هذا المفهوم ونشر ثقافته بين أفراد النظام الصحي العاملين لديها بهدف معالجة بعض العمليات المعقدة في خارطة النظام الصحي والوقوف على مكامن الخطر قبل وصولها للمريض ومن ثَم الارتقاء بجودة الخدمة الصحية المقدمة.

 

  • التحسين/التطوير الإداري المستمر للنظام(CONTINUAL IMPROVEMENT TO MANAGMENT): يمكن قياس مفهوم التطوير في جودة الرعاية الصحية المقدمة بمدى تحسن تجارب وشعور المرضى حيال النظام الصحي إضافة إلى تحسن ملموس في نتائجهم ((OUTCOMES وذلك بعد التزام المنشأة بتطبيق الخطط والاستراتيجيات التي تهدف إلى تغيير النظام للأفضل. وقد حرصت عيادات مايو على تطبيق مختلف الأدوات والتقنيات التي تقيس مدى جودة الخدمات الصحية المقدمة للمرضى وتحسينها بشكل دوري إضافة إلى تدريب العاملين لديها على تلك الأدوات بهدف الحفاظ على ذلك المستوى المتميز في إدارة الجودة وسلامة المرضى والاعتماد بشكل كبير على انطباع المرضى وتجاربهم في تلقي الرعاية الصحية.

 

  • تحليل البيانات بهدف اتخاذ القرارات(FACTUAL APPROACH FOR DECISION (MAKING: لا شك بأن عملية اتخاذ القرارات من قبل قيادة أو إدارة أي منشأة هي عملية حساسة وجوهرية خصوصاً في الأنظمة الصحية لأنها تتعلق بصحة وحياة الناس بالإضافة إلى أن لها علاقة مباشرة بمدى رضا العاملين في القطاع الصحي وانتاجيتهم. ويعتبر تحليل البيانات المتوفرة (DATA ANALYSIS) قبيل اتخاذ القرارات أحد أهم مبادئ الجودة آيزو-9001 . وقد اعتمدت عيادات مايو على هذا المبدأ لاتخاذ القرارات الفعالة في نظامها الصحي بشكل علمي مدروس وذلك عن طريق توفر المعلومات والبيانات في النظام وتحليلها باستخدام بعض البرامج الحاسوبية المتقدمة دون اللجوء للقرارات الارتجالية المبنية على الأهواء او بعض التجارب الشخصية.

 

  • بناء علاقة “المنفعة المتبادلة” بين النظام والأفراد(MUTUALLY BENIFICIAL (SUPPLIER RELATIONSHIP: يقوم هذا المبدأ على توثيق علاقة المنفعة المتبادلة بين النظام وعملائه ويقصد بهم هنا النظام الصحي وأفراد المجتمع بكافة أطيافه بما فيهم موظفي النظام، فحين يتعزز مفهوم احتياج كل من الطرفين للآخر واستفادته بل وتعلمه منه، عندئذٍ ترتقي جودة الخدمة المقدمة. وهذا المبدأ كان من ضمن أولويات النظام الصحي في مايو كلينك مما جعلها تقطع شوطاً كبيرا في ذلك.

 

وفي النهاية ، وبعد أن استعرضت معك عزيزي القارئ بعض الأسباب التي جعلت نموذج الرعاية الصحية المقدمة في عيادات مايو على رأس العديد من الأنظمة الصحية المتقدمة ، فلعلك تدرك أن ذلك لم يأت بمحض الصدفة أو نتيجة عمل فردي أو قرارات ارتجالية بل اعتمد على عمل دؤوب في تطبيق معايير عالمية لتقديم الجودة في الرعاية الصحية. ويعد الهدف من بحثي في تلك المبادئ والمعايير هو محاولة لاستنساخ تلك التجربة الناجحة ما أمكن وتطبيقها في القطاع الصحي بمملكتنا الغالية والتي لا ينقصها بحمد الله وفرة في الموارد أو الإمكانيات أو الكفاءات البشرية في مختلف التخصصات وقبل ذلك الدعم غير المحدود من قيادتنا الرشيدة حفظها الله. كل ما نحتاجه هو تكاتف الجهود وتوحيد الهدف تحت عنوان (المريض أولاً) ودمتم بكل ود.

[author image=”https://mail.google.com/mail/u/0/?ui=2&ik=149825080b&view=fimg&th=14f32b0632ea6654&attid=0.2&disp=inline&realattid=f_iddew1hp1&safe=1&attbid=ANGjdJ_vBPGh9xHevAFnT-yPUFTKelTPAusGxmOKp0rdgRJpuQCY_ypdow87FFeBDE2fN_sSjtOLwwBKTU3Ak2HT67FJSzOEvTHmd1YEIgancFfbvCzdbgSrp3sZo2Q&ats=1439743818943&rm=14f32b0632ea6654&zw&sz=w1342-h547″ ]

د. عبدالعزيز بن سالم القرزعي

استشاري طب الأسرة والمجتمع ومدرب طبي- برنامج الزمالة السعودية لطب الأسرة.
أخصائي إدارة الجودة وسلامة المرضى- الهيئة المشتركة الأمريكية (JCI)
ماجستير استراتيجيات الإدارة الصحية والقيادة – بريطانيا

من مقالات الكاتب :

مفهوم الجودة و سلامة المرضى
[/author]