تمر المصابة بسرطان الثدي بمعاناة متعددة الوجوه منذ لحظة التشخيص الأولى، وتتفاوت درجة ونوعية هذه المعاناة بحسب مراحل رحلة العلاج.  ودعوني أشرح هذه المراحل متسلسلة في سياق قصة رمزية لمريضة اسمها (ن).

فبعدما تم إخبار المريضة (ن) باحتمال التشخيص بسرطان الثدي كتفسير أولي للورم الذي لديها في صدرها الأيمن، فقد مرت حينذاك ببضعة أيام من الشعور بالكدر، والصدمة والذهول، والترقب والضبابية، والحيرة في اختيار العلاج الأنسب لحالتها، وهي المرحلة الأولى من رحلة الورم، واستمر هذا النوع من الكدر لحين تم التأكد من التشخيص ودرجة انتشار الورم، وتم الاتفاق على آلية العلاج ومدته.

ثم لما بدأت (ن) المرحلة الثانية من رحلتها مع الورم، وهي مرحلة ( البدء بالعلاج)، تغير لون معاناتها، لتصبح دائرة حول الأعراض الجانبية لعلاجات الورم سواء أكانت جراحية أو كيماوية أو إشعاعية أو هرمونية.. الخ، حيث عانت من آلام في مكان الجراحة، وكذلك عانت الأمرين من أعراض العلاج الكيماوي/ الإشعاعي ثم الهرموني، سواء أكانت أعراضاً جانبية جسدية أو نفسية، بإلإضافة إلى تأثير كل ذلك سلباً عليها من ناحية جمالية؛ مما جعلها تتجنب الاختلاط بأقاربها لأسباب متعددة ومنها خشيتها من كثرة السؤال والتطفل على حياتها وإشعارها بالشفقة.

أما في المرحلة الثالثة من رحلة سرطان الثدي، وهي مرحلة هدأة المرض وخموده ، فيفترض الناس المحيطون بالمريضة بأنها يجب أن تكون مفعمة بالسعادة، والشعور بالعافية على نحو كامل، بعد استكمال معظم العلاجات ما عدا بعض العلاجات الوقائية كالهرمونية ؛ ولكن يا للمفارقة، فقد عانت المريضة (ن) من الشعور بالإجهاد وسرعة التعب، بل والاكتئاب أحيانًا رغم أنها أنهت مرحلة العلاج، وتعد حالياً متعافية من السرطان؛ ولكنها مازالت تحاول استيعاب ما جرى لها أثناء رحلة المعاناة التي مرت بها في المرحلتين الأوليتين اللتين فصلنا الحديث عنهما آنفًا.

ومع أن نسبة قليلة من مرضى سرطان الثدي معرضون لانتكاسة الورم ومعاودته للانتشار بعد بضع سنوات من هدأة المرض واستكمال العلاج، وهي المرحلة الرابعة من رحلة الورم؛ فقد قدر الله أن تكون ( ن) من أولئك المريضات. وقد كان وقع خبر الانتكاسة عليها أليماً، وشعرت للوهلة الأولى بفقدان الأمل من نجاح العلاج هذه المرة، ومما يؤلمها كذلك أنها لم تعد تحصل على الدعم الكبير من المقربين لها كما هو الحال في الماضي. وقد عانت الأمرين هذه المرة من أعراض العلاج الكيماوي وغيره من العلاجات.  

أما المرحلة الخامسة والأخيرة، فلا يصل لها بحمد الله، سوى أقل القليل من مرضى سرطان الثدي، حيث يتوقف أطباء الأورام عن استعمال أي علاجات نشطة لإيقاف انتشار الورم، وإنما يكون التركيز في هذه المرحلة على تلطيف الأعراض التي قد تعاني منها المريضة في آخر رمق من حياتها؛ وقد كان أكثر ما يشغل بال المريضة ( ن) هو الاطمئنان على المخاوف الوجودية التي تؤرقها أكثر من غيرها من الأمور التي أمضّتها في مراحل سابقة، فقد كانت مهمومة بحال أبنائها من بعد وفاتها، ولديها شعور متزايد بالعزلة، وقلقة من أن تواجه ساعة الاحتضار -وهي في حالة ألم شديد، ودون دعم اجتماعي كاف- وكذلك فهي مذعورة من مصيبة الموت ثم الحساب في الدار الآخرة. 

وبالإضافة لكل ما سبق ذكره في المراحل الخمس أعلاه،  فمما يعاني منه بعض مريضات سرطان الثدي، الشعور بفقدان السيطرة على حياتهن، والخوف الدائم من نكسة المرض، وفقدان الاستقلالية والحاجة للاعتماد على الآخرين، كما أنهن قد يعانين من حزن الفقد مبكراً على فقد بعض أدوارهن الرئيسية في الحياة (دورها كأم وكزوجة وكموظفة..الخ)، بل وفقدان بعض العلاقات المهمة سواء بشكلٍ جزئي أو كلي.

من ناحية أخرى، فإن الثدي يمثل للمرأة رمزاً لأنوثتها، وقد تؤثر علاجات الورم بشتى أنواعها على بعض الوظائف الجنسية، ويزداد الأمر سوءًا عندما يبتعد عنها زوجها جسديًا مراعاة لحالتها الصحية؛ وهذا مما يفاقم شعورها بالهجران وفقدان الجاذبية، ويزيد من حدة المشاكل الزوجية.

عزيزتي المصابة بسرطان الثدي/ بودّي التأكيد بأن ما سبق شرحه من مراحل أعلاه، ليس بالضرورة أن يحصل بالضبط لكل أحد؛ وقد يحصل بصور متعددة مختلفة عما سبق شرحه آنفًا ؛ ولكن لو حصل لك شيء من ذلك، فلتعلمي بأنك لست وحدك! وأن هذه المشاعر تُعد طبيعية ما لم تكن حادة وشديدة الوطأة، أو تؤثر سلبًا على قدرتك على القيام بمهامك الحياتية بالحد الأدنى. ثم إن فريق الدعم لمرضى الأورام، ويشمل الأطباء النفسيين، والأخصائيين النفسيين، والأخصائيين الاجتماعيين، وأطباء التلطيف.. الخ، كل هؤلاء سيكونون في خدمتك متى احتجت لهم. 

ومما يركز عليه العلاج النفسي لمرضى الأورام سواء أكان بشكل فردي أو جماعي؛ تقوية وسائل التكيف التي أثبتت فعاليتها لدى المريضة ما قبل رحلة الورم؛ ومن ذلك، تعزيز القدرة على حل المشاكل، والسيطرة على الأعراض الجسدية والنفسية وظروف المرض بقدر الاستطاعة، والاستمتاع بالعيش في اللحظة الراهنة، وتقبل الألم الجسدي والنفسي، وقبول الذات بالرغم من تغيراتها، مع الالتزام بعيش حياة ذات معنى بشتى أدوارها، حتى لو كانت مشوبة بالألم النفسي والجسدي، وكذلك محاولة إيجاد المعنى والهدف في المعاناة، والتفاؤل والبحث عن المنح في خضم المحن،  بما في ذلك تعزيز الجوانب الروحية الموجودة لدى المرضى مثل معاني الإيمان بالقضاء والقدر واحتساب الأجر واللجوء للصلاة والذكر والصدقة وغيرها من أنواع العبادات.

كما يركز العلاج النفسي على تقوية العلاقات مع الأشخاص المهمين في حياة المريضة، وتحسين التواصل معهم بمن فيهم مقدمي الرعاية للمريضة، واستحضار ذكريات الماضي الجميلة، وبعث معاني الفخر عند المريضات بما تم إنجازه في مراحل حياتهن السابقة ، والقدرة على الاحتفاظ بفسحة الأمل، والتطلع للمستقبل حتى لو كان قصير المدى، والاستمتاع بالحياة يوماً إثر يوم، في وجه ساعة الموت التي توشك أن تداهم المريضة في أي لحظة، مع التصالح مع حقيقة الموت كقدر حتمي للبشر، وغير مرتبط بمرض مهما كان .

وأخيراً، فمن الجدير  بالذكر، التنويه بأن مرضى السرطان بمن فيهم سرطان الثدي معرضون أكثر من غيرهم للإصابة باضطرابات الاكتئاب الجسيم، والقلق بأنواعه، والأرق، والهذيان، وغيرها من الاضطرابات النفسية؛ ولذلك، فينبغي العناية بتشخيص هذه الاضطرابات في وقت مبكر وعلاجها بشكل عاجل ومتزامن مع علاج الورم سواء بشكل دوائي أو عبر العلاج النفسي بشتى أنواعه.

بقلم:

د. فهد العصيمي 

بروفيسور و استشاري الطب النفسي و الطب النفسي الجسدي بكلية الطب و المدينة الطبية الجامعية بجامعة الملك سعود