40

الصادرة من صحيفة – الإقتصادية

مجلة الجودة الصحية

د. عبد الوهاب بن عبد الله الخميس

alkhamisabdu@

سبق أن قلت إني متفائل مع سياسة ترشيد الإنفاق الحكومي لأن هذه السياسة أفرزت العديد من النظريات الإدارية كنظرية public choice ونظرية property theory وغيرهما.
لذا فليس غريبا أن تفرز الأزمات المالية أنماطا إدارية جديدة. فمثلا من أهم الأنماط الإدارية التي ظهرت في ظل الأزمات المالية ما يعرف بـ New Public Management NPM)) التي تدعو إلى تشغيل القطاع الحكومي بعقلية القطاع الخاص بحيث يكون تشغيل القطاعات الحكومية وفقا للمنجزperformance وليس لمدخلات الميزانية. من المؤسف أن نموذج الميزانية الذي اعتمدته وزارة المالية منذ أكثر من 50 سنة يسمى line item budget. هذا النموذج من الميزانيات يعتمد بشكل مبسط على بنود للرواتب والمشاريع والصيانة والتدريب وغيرها. من أهم عيوب هذا النمط من الميزانيات أن زيادة مدخلات الميزانية لا تقود بالضرورة إلى تطوير في مخرجاتها. فمثلا لا تعني زيادة الاعتمادات الوظيفية إلى تطوير مستوى الخدمات المقدمة من قبل وزارة الصحة لغياب الربط بين الاعتماد المالي وجودة المخرج كجودة الخدمات الصحية المقدمة. فمثلا زاد عدد مراكز الرعاية الأولية من 1905 مراكز صحية إلى قرابة 2259 مركزا خلال ثلاث سنوات بين عامي 1432 و 1435، ومع ذلك لم يشعر المواطن بتغيير حقيقي في مستويات الخدمات الصحية المقدمة له من مراكز الرعاية الأولية. فما زال عديد من مراكز الرعاية الأولية يفتقر إلى تقديم الخدمات الأساسية من خدمات المختبرات والأسنان والأشعة فضلا عن طبيب الأسرة المتخصص. بل أصبح الحصول على نتائج المختبرات يتطلب أكثر من شهر دون مبرر حقيقي. هذه الحقائق تعانيها المدن الرئيسية كمدينة الرياض، ولا شك أن الواقع أسوأ في المناطق الريفية. كما أن معظم مراكز الرعاية الأولية لا تعطي نتائج فحوص مخبرية مهمة كفحص الغدة الدرقية، وقس على ذلك ضعف تأهيل الأطباء والفنيين والإخصائيين في مجمل مراكز الرعاية الأولية.

فالميزانية الحالية لا تلتفت ولا تمكن صانع القرار من الاستثمار في تطوير مستوى الخدمات الصحية لأن تطويرالخدمات ” الجودة” لا يلقى درجة الاهتمام نفسها بتشييد المباني لأن أرقام التشييد يمكن حسابها في ميزانية line item budget بينما أرقام التطوير ورفع الجودة يصعب قياسها. وقس على ذلك المخرجات الصحية الأخرى.

كما أن هذا النمط من الميزانية يجعلنا نعيش حول أرقام مجردة ومفرغة من محتواها لا تعكس بالضرورة مستوى الخدمات المقدمة. بمعنى أننا أصبحنا ننظر للإنجازات كأرقام تتضاعف سنويا دون أن نشعر بهذه الأرقام على أرض الواقع. فمثلا احتساب عدد المراحعين لمراكز الرعاية الأولية أو أعداد المراجعين لبعض المستشفيات الطرفية لا يعكس حقيقة الأعداد المستفيدة من خدماتها. فلا يعني- مثلا – أن أعداد الزائرين لمراكز الرعاية الأولية أن هذه المراكز قدمت لهم الخدمات الصحية التي يحتاجون إليها. فزيادة أعداد مراجعي مراكز الرعاية الصحية قد يعني زيادة عدد الحالات المحولة للمستشفيات سواء القطاع الخاص أو العام وليس بالضرورة أن تلك المراكز قدمت بالفعل خدمات علاجية أو وقائية لهم.

هذه الأسباب وغيرها دفعت البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية لإعادة النظر إلى مقايس النظام الصحي بحيث أصبح قياس كفاءة الأداء من أهم مخرجات أي نظام صحي. فلم تعد العناية بكفاءة الأداء خيارا بل ضرورة لكل نظام صحي. بل إن نظام الميزانية الحالية line item budget من صور الميزانيات التي لا تؤيدها منظمة الصحة العالمية. فمثلا في اجتماعات منظمة الصحة العالمية لدول منطقة الشرق الأوسط كان تركيز المنظمة على دعم المحفزات لرفع كفاءة أداء النظم الصحية لدول المنطقة. بل إن وجود حوافز تعزز كفاءة الأداء هو ما تشجعه المنظمة خلال الورش العلمية وإللقاءات العلمية التي أقامتها خلال هذا العام.

لذا فإنني أجد أن ترشيد الإنفاق يجب أن يربط بجودة البرامج الصحية. لذا فلابد من تغيير نمط الميزانية من line item budget إلى ميزانية الإنجاز performance budget أو global budget . هذا النمط من الميزانيات يساعد الحكومة على ترشيد الإنفاق من جهة ويدعم البرامج التي تسهم في تحقق مخرجات حقيقية لا مجرد أرقام مجردة لا تعكس واقع الخدمات المقدمة للمستفيدين من الخدمة.