لقد شاع في الآونة الأخيرة تصدر بعض المختصين في الصحة النفسية لتشخيص الأمراض النفسية أو اضطرابات الشخصية، لدى أشخاص ارتكبوا جرائم بشعة أو شخصيات عامة أو سياسية أو تاريخية.الخ. ويعتمدون في ذلك أحياناً على مقاطع فيديو قصيرة أو استقراء شخصي، ليطلقوا أحكامهم وتشخيصاتهم الطبية النفسية عبر وسائل الإعلام، وبالطبع بدون استئذان من الشخص المعني!  فما مدى دقة هذه التشخيصات؟ وهل هذا العمل أخلاقي؟ أو مفيد؟

لقد تمنيت عزيزي القارئ أن يكفيني أحد مئونة الحديث عن هذا الموضوع الشائك، وبالذات إحدى الجهات ذات العلاقة، كالجمعية السعودية للطب النفسي أو اللجنة الوطنية لتعزيز الصحة النفسية أو الهيئة السعودية للتخصصات الصحية. ولأن ذلك لم يحدث بعد، فسأحاول مقاربة هذا الموضوع في النقاط التالية:

أولاً) الأرجح أن هذه التشخيصات ليست دقيقة البتة. بل هي إلى التخرص أقرب! وقد اتفقت التوصيات العالمية على أن مدة الزيارة الأولى للطبيب النفسي، للحصول على التشخيص الدقيق هي خمس وأربعون دقيقة، ولا يُقبل بحال من الأحوال أن تقل عن نصف ساعة، مهما بلغ الطبيب علماً وخبرة. وأحياناً يحتاج الطبيب لعدة زيارات، للوصول للتشخيص الدقيق، مع مراجعة فحوصات المريض وطلب تحاليل وأشعة إضافية حسب حالة المريض الإكلينيكية؛ لاستبعاد الأمراض النفسية الثانوية، وربما الاستعانة بأخصائي نفسي لإجراء بعض المقاييس النفسية واختبارات الشخصية المقننة. علاوة على ذلك، فهو بحاجة لجمع معلومات رادفة من أهل المريض بعد استئذانه، ومراجعة تقاريره الطبية الصادرة من العيادات الأخرى، وحالته الجسدية بشكل عام. بل أحياناً، يتم تنويم المريض في جناح الطب النفسي بضعة أسابيع للتأكد من دقة التشخيص النفسي.  ولمن أراد المزيد من التفاصيل، فقد وضحتها في مقال سابق بعنوان (اعرف حقك!ما هي حقوق المريض في العيادة النفسية؟).

وأحياناً، يموت مرتكب جريمة ما إما مقتولاً أو منتحراً، فيسارع بعض المختصين النفسيين بإطلاق التشخيصات النفسية المحتملة عليه. ولو سألنا خمسة أطباء نفسيين -غير متخصصين-بهذا الشأن، عن تحليلهم النفسي لحالة انتحاري ما، لربما خرجنا بخمسة آراء مختلفة.والسبب باختصار، لأنها انطباعات شخصية، وليست مبنية على تقييم طبي نفسي كاف. وهناك تخصصات دقيقة في مجالات الطب النفسي وعلم النفس وعلم الاجتماع، كالطب النفسي الشرعي وعلم نفس الجريمة. الخ تُعنى بمثل هذا الأمر. ولديهم طرق بحثية علمية تتناسب مع هذه الأمور الشائكة. فهذا الانتحاري له أهل وأصدقاء مقربون يمكن الاستعانة بهم، لفهم جانب من شخصية هذا الانتحاري. وهناك أشخاص آخرون، يُقبض عليهم قبل تنفيذ عملياتهم الانتحارية، فتُجرى لهم تقييمات نفسية عميقة. وبالجملة، هناك طرق بحثية علمية يعرفها أهل التخصص. وأنا لست متخصصاً في الطب النفسي الشرعي، فلا أرغب في الاسترسال في الكلام هنا، وأدعو المختصين للإدلاء بدلوهم حول هذا الشأن.

ثانياً) الأرجح أن هذا العمل غير أخلاقي البتة. فمن المتفق عليه عالمياً، وجوب الحفاظ على سرية المعلومات الخاصة بالمصاب بمرض نفسي، وعدم الحديث بشأنها عبر وسائل الإعلام.وقد نص نظام الرعاية الصحية النفسية في السعودية الصادر بمرسوم ملكي بتاريخ 20 رمضان 1435 للهجرة، على وجوب المحافظة على سرية المعلومات الخاصة بالمريض وعدم البوح بها أو إفشائها إلا بناء على طلب من مجلس المراقبة العام – أو المحلي – للرعاية الصحية النفسية أو من جهات القضاء والتحقيق مع بيان الغرض من الحصول على هذه المعلومات، أو للأغراض العلاجية أو وجود الخطورة الحتمية على نفسه أو الآخرين. وقد توعد هذا النظام في مادة أخرى، بالسجن والغرامة لكل من أفشى أسرار مريض نفسي.وهذا النظام، ينطبق على إفشاء أسرار المصاب بمرض نفسي مؤكد. في المقابل،فإن إجراء تقييم نفسي مبتسر، وخارج العيادة،وبلا إذن من الشخص المُقيم، ثم إذاعة ذلك عبر وسائل الإعلام؛ هو كذلك ليس مقبولاً أخلاقياً على الإطلاق.

وربما يتحجج البعض بأنه لا حرمة للشخصيات العامة، ولذا أحياناً  تتحدث عنهم بعض وسائل الإعلام بلا تحفظ. وعلى فرض القبول أخلاقياً بذلك، فذلك حتماً لا ينطبق على الطبيب؛ نظراً لطبيعة مهنته الإنسانية. ولذلك تمنع جمعية الطب النفسي الأمريكية الطبيب النفسي من التعليق الإعلامي على الحالة النفسية لأي إنسان، مالم يجر له بنفسه تقييماً إكلينيكياً، ويستأذنه في نشر نتائج هذا التقييم عبر وسائل الإعلام (ويعرف بقانون جولدووتر).

(American Psychiatric Association, The Principles of Medical Ethics with Annotations Especially Applicable to Psychiatry, Section 7.3, 2013 edition (

 ثالثاً) الأرجح أن هذا الأمر غير مفيد البتة للأسباب التالية:

أ-غالب مصطلحات التشخيصات الطبية بما فيها النفسية، حمالة أوجه. ويعرف عامة الناس أن مرضى السكري أو الأورام على سبيل المثال، ليسوا سواء في درجة شدة المرض ولا مضاعفاته رغم أنهم يحملون تشخيصاً موحداً. ويتضح هذا الأمر أكثر في مصطلحات الأمراض النفسية، التي يتداخل في تشكيلها وعلاجها عوامل بيولوجية ونفسية واجتماعية وثقافية. ولذلك يأخذ المعالج النفسي الحاذق في اعتباره، كل هذه العوامل لكل مريض على حدة، ولا يعتمد فقط على مجرد التشخيص الإكلينيكي.

وعموماً، يلجأ المعالجون الإكلينيكيون من أطباء وغيرهم، لاستخدام المصطلحات التشخيصية غالباً لتسهيل التواصل بينهم حول أحوال المرضى الإكلينيكية، وتسهيل عمل الأبحاث العلمية، وإحصاء أعداد الأمراض. وبالتالي، لا فائدة لعامة الناس من الدخول في دوامة هذه المصطلحات التشخيصية.

ب-يساهم ذلك في زيادة الوصمة السلبية للأمراض النفسية، بربطها بالإجرام. وقد أثبتت الدراسات، أن غالبية الجرائم الكبرى لا علاقة لها من قريب ولا من بعيد بالإصابة بالمرض النفسي. وقد فصلت موضوع الوصمة بمقال مستقل بعنوان (أرجوكم: كفوا عن وصمي بالمريض النفسي!

ج-يؤدي الاستسهال في إطلاق التشخيصات النفسية عبر الإعلام، وتنميط الشخصيات العامة أو التاريخية، لنفور الناس من الطب النفسي، ويزيد الوصمة ضغثاً على إبالة. ومن نافلة القول، التأكيد بالذات، على عدم استخدام مصطلحات التشخيص النفسي الحديثة،عند الحديث عن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام؛وذلك لأسباب كثيرة ذكرت بعضها آنفاً،ولا يكفي المقام لبسطها.

د-كما أن استخدام سلاح التشخيص النفسي ضد بعض الشخصيات السياسية أو التاريخية؛ لإرضاء الهوى السياسي أو الإيديولوجي، علاوة على هشاشته؛ هو سلاح ذو حدين. ويضطر المختص النفسي، للكيل بمكيالين، مما يُضيع هيبة العلم والأخلاق المهنية معاً.

 ﮪ-قد يلجأ بعض المختصين النفسين المغمورين لهذا الأمر، ليحقق شهرة زائفة، أو ارتقاءاً مصطنعاً على كتف الأحداث الاجتماعية والسياسية الساخنة. وبعض هؤلاء يُصدّر اسمه بلقب (مستشار نفسي وأسري)، رغم أن بضاعته في العلم مزجاة، ولم يتلق هذا اللقب من جهة علمية معتبرة، ولا نتيجة دراسة وتدريب عملي كاف. وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم:( المتشبع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور). وكذلك تلجأ بعض وسائل الإعلام لذلك بحثاً عن الإثارة. ولايليق بالمتخصص النفسي أن ينجرف في هذا التيار؛ طمعاً في هذه الأضواء الكاذبة، على حساب المهنية والعلم(فأما الزَّبد فيذهب جُفاء،وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

 أخيراً) أؤكد على هدف المقالة النبيل في نقد ظاهرة محددة، فأرجو ألا تستغل في الإساءة لأحد بعينه، أو التقليل من جهود زملائي وأساتذتي في مجال الصحة النفسية، وكلمات الشكر تقف عاجزة عن الامتنان لهم على ما بذلوه وسيبذلونه في المستقبل لخدمة المجتمع.

قفلة: ليس من حق المختص النفسي ولا بمقدوره؛ إصدار تشخيصات نفسية، مبتسرة، على شخصية عامة؛ مالم يجر له تقييماً إكلينيكياً مفصلاً في العيادة، ويستأذنه في نشر نتائج هذا التقييم عبر وسائل الإعلام.

والله من وراء القصد