السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فمما ذاع وانتشر بين الناس أن الأمراض النفسية لا تصيب من تمسك بالدين أو قويت إرادته. وربما تحمس بعضهم ودعا لإغلاق العيادات النفسية. وهذا ما حفزني لكتابة هذا المقال من أجل توضيح بعض المفاهيم التي تلتبس على بعض الناس حول ماهية الأمراض النفسية :
أولاً: تصيب الأمراض النفسية قرابة 33%من الناس في العالم ،وهذه النسبة مطردة في شرق العالم وغربه .ويصل عدد هذه الأمراض بحسب التصنيفات العلمية لما يقارب الثلاثمائة مرض، وتتراوح في شدتها من أخفها كالرهاب المحدد (رهاب الطيران،المرتفعات……الخ) إلى أشدها وطأة كمرض الفصام العقلي.
ثانياً :تتعدد مسببات الأمراض النفسية وتختلف بحسب أنواعها ،وغالبا ما تتضافر أسباب جينية وبيولوجية وضغوط نفسية واجتماعية لإظهار المرض .ولعلي هنا أضرب مثالاً لدور العامل الجيني في الإصابة بالاضطراب الوجداني ثنائي القطب (النوع الأول) فنسبة الإصابة لدى عامة تالناس 1% ،وتزيد لدى الأبناء إذا كان أحد الأبوين مصاباً إلى 20%، أما إذا كان كلا الأبوين مصاب بالمرض فإن نسبة إصابة الأبناء تصل إلى 60% .وإذا كان أحد التوأم المتشابه (من بويضة واحدة) مصاباً بالمرض فإن نسبة إصابة التؤم الثاني تصل ل 70%. وكما هو الحال في عدد من الأمراض كالسكري مثلاً فليس هناك جين وحيد مسبب لمرض الاضطراب الوجداني ثنائي القطب (النوع الأول) بل هناك عدة جينات مصابة تتفاعل مع بعضها ومع عوامل بيولوجية وضغوط نفسية واجتماعية لكي يصاب الانسان بالمرض.
ثالثاُ: ما حجم تأثير هذه الأمراض النفسية على المصابين بها والمجتمع ككل؟! .للأسف فإن الإجابة مفزعة.فقد أكدت دراسات منظمة الصحة العالمية أنه بحلول عام 2020 سيصعد مرض الاكتئاب الحاد من المرتبة الرابعة للمرتبة الثانية خلف مرض شرايين القلب التاجية في قائمة أشد الأمراض فتكا بالبشرية من ناحية حجم انتشارها وإعاقتها للمصابين بها.وهناك أربع أمراض عصبية ونفسية أخرى بالإضافة لمرض الإكتئاب الحاد تحتل مقعداً ضمن قائمة العشر أمراض الأولى من ناحية حجم انتشارها وشدة إعاقتها للمصابين بها . ومما يزيد الطين بلة أن بعض الأمراض النفسية كالإكتئاب يفاقم من نسبة وشدة الإصابة ببعض الأمراض الجسدية والعكس صحيح. وكمثال لذلك فقد أكدت عدة دراسات مسحية عالمية أن مرض الإكتئاب الحاد يزيد من نسبة تكرار الجلطات القلبية المميتة من ضغفين إلى خمس أضعاف. ولتفسير هذا التشابك بين مرض الاكتئاب وجلطات القلب فقد أشارت الدراسات لزيادة تخثر الدم ونسبة الالتهابات واضطراب الجهاز العصبي اللاإرادي لدى مرضى الإكتئاب مما يفاقم مرض شرايين القلب التاجية. وللأسف ما زالت نسبة الميزانيات المرصودة لعلاج الأمراض النفسية وتأهيل المصابين بها دون المستوى المطلوب في أنحاء كبيرة من العالم ولذلك تخسر الولايات المتحدة الأمريكية قرابة سبعمائة مليار ريال سنوياً بسسب ضعف إنتاجية مرضى الاكتئاب. فيا ترى كم تخسر بلادنا بسبب قلة الاهتمام بتشخيص وعلاج مرض الاكتئاب وغيره من الأمراض النفسية؟!

رابعا:لا شك أن قوة الايمان بالله وبقضائة وقدره تخفف من وطأة الاصابة بكافة الأمراض جسدية كانت أو نفسية. لكن ما هو مؤكد كذلك أن أي إنسان مهما كانت قوة إيمانه فهو معرض للإصابة بجميع الامراض بلا استثناء وهي جزء من ابتلاء الله لعباده. وقطعاً لم يحجر الشارع الحكيم على الناس أن يصابوا بمشاعر الحزن والخوف والغضب وإنما نهوا عن السلوكيات المصاحبة والتي باستطاعتهم تفاديها كاطلاق عبارات التسخط وبعض سلوكيات الجاهلية كشق الجيوب وغيرها. وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم على وفاة ابنه إبراهم وقال(وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون). وحزن يعقوب عليه السلام حتى ابيضت عيناه على فراق ابنه يوسف .وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب إذا انتهكت محارم الله ولايقول إلا حقاً. وبدلاً من كبت هذه المشاعر وهو أمر محال فقد كان المنهج النبوي يسلي المحزونين والمهمومين بقوله صلى الله عليه وسلم (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه).ومع وضوح هذا الأمر فما زال بعض دعاتنا ومثقفينا يثرب على من تطبب عند طبيب نفسي ويصادر مشاعر وأحاسيس من ابتلوا ببعض هده الأمراض.والأسوأ من ذلك أن تذاع مثل هذه الآراء على منابر شرعية أو تنشر في صحف سيارة.
خامساً) لم يجد نبينا صلى الله عليه وسلم غضاضة في أن يصف علاجاً حسياً لمشاعر حزن طبيعية كما ورد في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان ينصح باستعمال (التلبينة)وهي حساء يصنع من الدقيق لمن أصابه حزن على وفاة قريب . وكان يقول عليه الصلاة والسلام (التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن). وقياساً على ذلك فإذا كان المنهج النبوي ينصح بعلاج حسي لمشاعر حزن طبيعية فإن استعمال الأدوية النفسية المثبتة بدراسات علمية محكمة لعلاج الأمراض النفسية أمر محمود بلا شك ولهذا السبب فإن كبار علمائنا وعامة مثقفينا ونسبة متزايدة من الناس في الوقت الحاضر يؤكدون على أهمية التطبب في العيادات النفسية لمن احتاج لذلك.
وأخيراً .لقد ورد في الحديث ( من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن) ،وأعتقد أنه من أفتى بغيرعلم بأمور طبية سواء بصرف دواء أو منع غيره من أخد دواء فقد يقع في طائلة المسائلة سواء في الدنيا أو في الآخرة… والله أعلم.
ولكم خالص شكري وتقديري

د.فهد بن دخيل العصيمي
أستاذ مساعد-كلية الطب-جامعة الملك سعود
استشاري الطب النفسي الجسدي