بادئ ذي بدء، غني عن القول، أن الأطباء في السعودية وغيرها من الدول، بكافة درجاتهم وتخصصاتهم، يبذلون جهوداً مضنية لخدمة المرضى، في ظل ظروف عملية قاسية۔ كما أنهم يعانون من درجات عالية من التوتر، وقد أكدت ذلك دراستين وطنيتين، تشرفت بالقيام بهما مع باحثين آخرين، ونُشر بعض نتائجها منذ بضع شهور. ولذلك فقد دعوت، ومازلت أدعو بشدة، لبذل كافة الجهود لتحسين بيئة العمل الطبي، وتدريب الأطباء على مهارات التكيف الصحي مع الضغوط، وقبل ذلك وبعده، إعطاء الأطباء حقوقهم المعنوية والمادية، كاملة بلا منّ ولا أذى.

 

في المقابل، مما يعكر نقاء هذا البياض، وجود بعض الممارسات الخاطئة لدى (بعض) الأطباء في طريقة تعاملهم مع مندوبي شركات الأدوية والصناعات الطبية. فقد أظهرت دراسة وطنية حديثة، قام بها كاتب المقالة مع باحثين آخرين، على 663 من الأطباء في السعودية، من مختلف الجنسيات والتخصصات؛ أن 72% من عينة الدراسة، قد قبلوا هدايا شركات الأدوية. وكان أكثر هذه الهدايا شيوعاً، المستلزمات المكتبية، وعينات الدواء المجانية، والوجبات المجانية، وتوفير الدعم لحضور النشاطات التعليمية.

(Alosaimi FD, et al, Int eractions between physicians and pharmaceutical sales representatives in Saudi Arabia. Ann Saudi Med. 2013)

وقد استحوذت جوانب هذه العلاقة بين الأطباء ومندوبي شركات الدواء والصناعة الطبية، بما في ذلك قبول هداياهم، على نصيب وافر من الأبحاث المنشورة قديماً وحديثاً، وفي مجلات طبية مرموقة. ففي استعراض لنتائج 29 دراسة عالمية بهذا الصدد، خلص أحد الباحثين، إلى أن هذه العلاقة مهما صغرت، وقبول الهدايا بشتى أصنافها، لها تبعات سلبية۔ وترتبط هذه العلاقة ارتباطاً وثيقاً بالصرف المفرط، والغير مبرر إكلينيكياً، لأصناف الأدوية الجديدة ذات الأسعار الباهظة؛ بالإضافة لإدخال أصناف أدوية جديدة، بلا سند علمي كاف، لقائمة الأدوية المتوفرة بصيدليات المستشفيات.

(Wazana A. Physicians and the pharmaceutical industry: is a gift ever just a gift? JAMA. 2000)

أما من ناحية شرعية، فقد أفتى بعض علمائنا، أن الأمر يرجع لما تقرره التوصيات الأخلاقية للجمعيات الطبية ذات العلاقة، لأنها تفهم خفايا هذه الأمور وتأثيراتها. وغالب هذه الجمعيات الطبية العالمية المرموقة، إما أنها تمنع منعاً باتاً تلقي أي هدايا مباشرة من شركات الدواء، أو أنها تسمح فقط بتلقي الهدايا الرمزية. وفي هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم مقياس نبوي رفيع، لمن أراد التفريق بين الغلول وهدايا العمال، وبين الهدايا المباحة۔ فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن اللتبية الشهير “فهلا جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدى له أم لا”. وأنا هنا أطرح هذا الرأي الشرعي، نظراً لأن بعض الأطباء يجادل بحلّ هذه الممارسات، وأنه كطبيب مسلم لن يتأثر بما يُهدى إليه! ويزعم أن القوانين العالمية، المقيدة للتعامل مع شركات الدواء، تنطبق على الأطباء غير المسلمين فقط! وهذا غير صحيح البتة۔

 

إذن كيف نتصدى لهذه الممارسات اللامهنية؟ أعتقد أن هناك توصيات يمكن أن تقدم لأفراد الأطباء، وأخرى للمستشفيات، وثالثة للجهات ذات العلاقة. أما التوصيات لأفراد الأطباء، فملخصها التوقف الفوري عن قبول هدايا مندوبي شركات الدواء والصناعة الطبية، مهما قل ثمنها؛ والقيام بواجب الاحتساب بهذا الشأن كل بحسب استطاعته.

أما بالنسبة للمستشفيات، فهناك عدد من الضوابط المهنية، للتعامل مع مندوبي شركات الأدوية والصناعة الطبية، التي أقترح اتباعها داخل أقسام أي مستشفى:

1- منع مندوبي شركات الأدوية من التواجد في العيادات والأجنحة على الإطلاق.

2- منع مندوبي الشركات من توزيع الهدايا بشتى أنواعها وأثمانها بشكل فردي، لأعضاء المستشفى من الأطباء والصيادلة ونحوهم.

3- منع إدخال عينات الأدوية المجانية التي تقدمها الشركات للعيادات.

4- يتم الموافقة على إدخال الأدوية الجديدة في صيدلية المستشفى بعد الموافقة على ذلك عبر لجنة مستقلة، لا يوجد لأفرادها أي تعارض مصالح.

5- تستقبل إدارة المستشفى، الدعم المادي وخلافه الذي تقدمه شركات الأدوية والصناعة الطبية المختلفة، ويودع الدعم المادي في حساب خاص بالمستشفى.

6- يستغل هذا الحساب الخاص بالتبرعات للمستشفى، في دعم أنشطة المستشفى المختلفة، بما فيها أنشطة التعليم الطبي المستمر، ودعم تنظيم المؤتمرات العلمية، وإنشاء مكتبة علمية ثرية للمستشفى، واشتراكات إلكترونية في بواحث علمية، ودعم أعضاء المستشفى لحضور المؤتمرات العلمية المفيدة التي تنظمها جمعيات علمية مستقلة، وكذلك دعم الأبحاث العلمية. وربما يستفاد من هذا الحساب أيضًا في شراء أو صيانة مرافق وأجهزة تفيد المستشفى. وكل ما سبق، يتم بعد الموافقة على ذلك في مجلس القسم/المستشفى، ولكل نشاط على حدة. وبهذه الطريقة يتلقى أعضاء المستشفى هذا الدعم بشكل مباشر من إدارة المستشفى، مما سيقلل من التأثير السلبي للتعامل المباشر والفردي بين أعضاء المستشفى ومندوبي الشركات.

7- لحفظ حقوق شركات الأدوية الداعمة لحساب المستشفى، يمكن تثمين هذا الدعم بخطاب شكر يوضع في موقع المستشفى على الانترنت، أو خلافه، لكل شركة، بحسب حجم دعمها.

8- ولمزيد من التفاصيل حول هذه الاستراتيجية الأخلاقية المهنية في التعامل مع شركات الأدوية، يمكن الرجوع لهذه الدراسة الرصينة:

(Brennan TA, et al. Health industry practices that create conflicts of interest: a policy proposal for academic medical centers.JAMA. 2006)

 

أما الجهات الحكومية ذات العلاقة، فأعتقد أن عليها سن قوانين حازمة بهذا الشأن، والمتابعة الصارمة لتنفيذ تلك القوانين، ومحاسبة المتجاوزين. ومن ذلك، إلزام شركات الأدوية والصناعة الطبية بتقديم دعمها للتعليم والأبحاث الطبية عبر الجهات الصحية والتعليمية، لتكون وسيطاً نزيهاً يتولى دعم مناشط الأطباء العلمية وأبحاثهم، كجهة وسيطة ثالثة. وكذلك، إلزام الجهات الصحية بتقديم الدعم الكافي للأطباء، لتعلم الجديد في مجال الطب، لكيلا يلجؤوا لمن يستغلهم بهذا الشأن.

 

ختاماً، لقد كتبت هذه المقالة منذ أمد بعيد، لكنني ترددت طويلاً في نشرها، كيلا يُفهم موضوعها خطأً، أو يُعمم ما فيها على أغلبية الأطباء الشرفاء۔ وبدلاً من ذلك، أرسلتها لعدد من الجهات الرسمية ذات العلاقة لكي تتخذ الإجراءات المناسبة، لكن لم أتلق منها أي تجاوب على الإطلاق۔ ولذلك فقد آثرت نشرها الآن إبراء للذمة، ولعلها تصل لأهل الشأن، وخصوصاً الأطباء في كل مكان، ولهم مني كل عبارات التقدير والاحترام.

 

والله من وراء القصد

 

د. فهد بن دخيل العصيمي