للأسف يعتقد بعض الناس أن ما تنشره وسائل الإعلام من معلومات صحية ودعايات طبية لا يتطرق لها شك في صدقها ولا دقتها؛ مع أن الواقع يقول، أن الإعلام المحلي لدينا يغلّب عليه أحياناً جانب الإثارة الإعلامية والكسب المادي على حساب صحة المجتمع بشكل عام.

      واسمحوا لي أيها القراء الكرام أن أضرب بعض الأمثلة، وبالمثال يتضح المقال. فقد حدثني استشاري أطفال صدرية بمستشفى مرموق في الرياض، عن حصول انتكاسات خطيرة ومفاجئة في غضون شهرين لعدد كبير من مراجعيه من الأطفال المصابين بالربو، وبعضهم تم تنويمه آنذاك في العناية المركزة. ونتج ذلك بسبب إيقاف آباء هؤلاء الأطفال لبخاخات الربو الوقائية المحتوية على الكورتيزون؛ خوفاً من أعراض الكورتيزون الخطرة على أطفالهم، والتي قرؤوها في أحد الصحف. فقد نشرت أحد الصحف المحلية آنذاك صورة لبخاخ الربو المحتوي للكورتيزون وبجواره قائمة طويلة مزعومة للأعراض الجانبية الخطيرة المترتبة على استخدامه. ولو كان لمحرر تلك الصحيفة أدنى خبرة طبية أو استشار متخصصاً، لعلم أن العلاجات المحتوية على الكورتيزون من أعظم الاختراعات الطبية نفعاً، وأن هذه الأعراض الجانبية الخطيرة لدواء الكورتيزون نادرة الحدوث، وتحدث أكثر عند استعمال جرعات عالية، وعبر الوريد، ولفترات طويلة.  

     ومن الأمثلة المتكررة لأخطاء الإعلام الصحي، نشر نتائج لدراسات إما هزيلة في طريقة إجرائها فلا يُعتد بنتائجها إطلاقاً، أو أن نتائجها مخالفة لعشرات من الدراسات السابقة لها، ولذلك لابد من تأكيد نتائجها بواسطة باحثين آخرين لكي يُعتد بنتائجها في التوصيات الإكلينيكية. وللأسف يتسرع بعض مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، من الأطباء وغيرهم، في نشر بعض نتائج الأبحاث العلمية بطريقة مبسترة، ومضللة للمتابعين غير المتخصصين طبياً؛ مما يؤدي لنتائج كارثية على صحة المرضى والمجتمع بشكل عام.  وقد صدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه حينما قال (حدثوا الناس بما يعرفون)، وقد قيل: لكل مقام مقال، وليس كل ما يعلم يقال. وقد كتبت مقالاً حول هذا الشأن عنوانه (مزالق الفضلاء في تويتر) .

والأسوأ من ذلك، وقد تكرر حدوثه في السنوات الأخيرة، أن يطبّل صحفي لباحث سعودي نشر مقالة بحثية عادية في مجلة علمية محدودة التأثير (يٌنشر المئات من أمثالها كل يوم)، ويستخدم عناوين براقة وعبارات مبالغ بها لوصف نتائج ذلك البحث. وكان الأجدر بالصحفي إزجاء الثناء المعتدل لهذا الباحث، والوصف الدقيق لنتائج بحثه دون تضليل القراء.

    أما نشر الدعايات الطبية المضللة فحدث ولاحرج. ومن ذلك، تسويق بعض الصحف الإلكترونية لمعالجين شعبيين، استغلوا حاجة الناس! فادعوا علاج كل الأمراض، واستخدموا طرقاً سقيمة، ليس عليها دليل من نقل ولا عقل ولا تجربة، وكلّفوا المرضى مبالغ طائلة. وهم يعملون في استراحات خاصة بهم، بلا حسيب ولا رقيب؛ فالداخل إلى بعض استراحاتهم مفقود، والخارج منها مولود، والناس فيها دود على عود!!!

ويدخل في ذلك، نشر دعايات مضللة لدورات وهمية بغرض علاج بعض الأمراض النفسية (وأنى لمدرب مهما بلغ تأهيله أن يعالج مائة شخص بشكل جماعي خلال بضع ساعات!!! في حين يحتاج المعالج النفسي المؤهل بحسب الدراسات العلمية، للقيام بجلسات علاجية نفسية متكررة مع مريض واحد أو مجموعة صغيرة، بشكل أسبوعي، ولبضعة شهور، وتستغرق كل جلسة منها 45 دقيقة؛ لكي يستطيع أن يعالج فعلياً أحد الأمراض النفسية). وكثيراً ما يستفزني، دعايات التخفيضات في كشفية الزيارة للأطباء والتحاليل المختبرية؛ وذلك عندما تعرض سعراً مخفضاً لمن يزور أكثر من عيادة في ذلك المركز الطبي الخاص، وكلما أكثر المريض من التحاليل والتصوير بالأشعة نال تخفيضاً أكثر. وهذه الدعايات تستهدف المصابين باضطراب القلق من الأمراض، والذين يدخلون ذلك المركز لعلاج شكوى طبية واحدة، ثم تتدافعهم الأيدي بين عياداته ومختبراته المختلفة، ويخرجون منه في النهاية بشكاوى طبية متعددة، وبالطبع بعد فراغ جيوبهم من الأموال!! وللأسف يحصل بعض الأطباء العاملين في تلك المراكز الطبية الخاصة على نسبة من قيمة الكشفية عند التحويل للعيادات الأخرى في نفس المركز، ونسبة من قيمة الفحوصات، وربما الأدوية التي يصرفها للمريض؛ وهذا يشكل تعارضاَ في المصالح، وسيؤثر غالباً على قراراتهم الإكلينيكية. وقد أطنبت في الحديث عن ذلك في مقال سابق بعنوان (اضطراب قلق الأمراض والهرم الصحي المقلوب)، فيمكن الرجوع إليه لمن أراد.

 ودعوني أختم مقالتي هذه ببعض الاقتراحات، ومنها، أن تستعين وسائل الإعلام بمحريين طبيين متخصصين أو بمستشارين طبيين لمراجعة ما ينشر في تلك الوسائل من حيث الصحة والدقة. وكذلك لابد من تفعيل الأدوار النقابية والرقابية للجمعيات السعودية في مختلف التخصصات الطبية المختلفة لكي تحمي صحة المجتمع من الدخلاء والممارسات الخاطئة؛ وأيضاً لابد من تفعيل الأدوار الإعلامية لتلك الجمعيات، وأن تتخذ متحدثاً رسمياً باسمهما لتوضيح أي لغط صحي يدور في وسائل الإعلام. وأخيراً أتمنى من الجهات الرسمية المعنية سن قوانين صارمة في هذا السياق، ومتابعة ما يجري في المراكز الطبية الخاصة، واستراحات المعالجين الشعبيين؛ وأن تتخذ إجراءات حازمة لحماية المرضى من الاستغلال.

والله من وراء القصد