دروس في علم الإدارة.. من مايو كلينيك
بقلم / يوسف القبلان
مجلة الجوده الصحية _ دينا المحضار
عندما تتحول القيم والمبادئ التي تؤمن بها المنظمات إلى ممارسات، يصبح من حقها أن تفتخر وتتحدث عن نفسها، وجديرة بأن تكون رائدة في مجالها.
ينطبق الكلام السابق على المستشفى الشهير مايو كلينيك في مدينة روتشستر بولاية مينيسوتا بأميركا. ويمكن التعرف على التجربة المتميزة لهذا الصرح العريق من خلال كتاب فريد من تأليف خبير الأعمال الخدمية ليونارد بيري، ومدير التسويق في مستشفى مايو كلينيك كنت سيسيلتمان.
المشاركة وتداول المناصب القيادية ورئاسة الأقسام والشُّعب السريرية وعضويات مجلس الحكام والمجلس التنفيذي، كانت أحد الأسباب التي جعلت مايو كلينيك يستمر لسبعة عقود محافظاً على أدائه من خلال عمل مؤسسي وليس الاعتماد على فرد واحد
الكتاب بعنوان (دروس في علم الإدارة من مايو كلينيك) طبع باللغة العربية باتفاقية نشر خاصة بين الناشر دار الكتاب العربي ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم. ترجمة الدكتور إيهاب عبدالرحيم محمد.
يصف الناشر الكتاب بأنه دراسة للمبادئ التشغيلية التي توجه كلاً من القرارات الإدارية في مؤسسة الرعاية الصحية الأسطورية (مايو كلينيك) وفيه يشدد المؤلفان على القضايا التالية:
_ تبيان كيف تطورت علامة تجارية خدماتية عظيمة من القيم الرئيسية التي تغذيها وتحميها.
_ استنباط دروس إدارية وعملية مفيدة يمكن تطبيقها خارج قطاع الرعاية الصحية.
_ توضيح فوائد تجميع المواهب وتشجيع العمل الجماعي ضمن فريق العمل.
_ مشاركة العاملين والمرضى على السواء في قصصهم وأخبارهم الملهمة.
وقد توفرت للمؤلفين فرصة من الداخل لدراسة ثقافة الخدمة الخاصة بهذا المستشفى وذلك بإجراء مقابلات شخصية مع القادة والأطباء السريريين والعاملين والمرضى، بالإضافة إلى مراقبة المئات من التعاملات بين الأطباء والمرضى.
كانت الحصيلة من تلك التجربة إعداد هذا الكتاب الذي يستنبط الدروس الإدارية من تطبيق المستشفى لاستراتيجيته وأنظمته وأساليبه الإدارية، وترجمة قيمه إلى واقع ملموس وتجارب تستحق أن تعرض لغرض الاستفادة من تجارب الآخرين في مجال مهم جدا هو مجال الإدارة.
بدأ هذا المستشفى عمله قبل أكثر من 140 عاماً، وهو الآن يتعامل يوميا مع 65،000 شخص من المرضى وذويهم وأصدقائهم بالإضافة إلى الموظفين والطلبة والمتطوعين. صرح طبي وعلمي وإداري يستحق الكثير من كتب التوثيق والتحليل. ويستحق كتاب (دروس في علم الإدارة من مايو كلينيك) أن نتجول فيه ونعرض لبعض المفاهيم والمبادئ والتطبيقات في تجربة هذا المستشفى وهي ذات فائدة في مجال الرعاية الصحية وغيرها من المجالات.
المستشفى صاغ قيمه وثقافته وتوقعاته في وثيقة تعرف بنموذج مستشفى مايو كلينيك للرعاية، وهي تعكس أسلوب عمل المستشفى طوال تاريخه. ونحاول – من خلال الكتاب المشار إليه – تسليط الضوء على بعض الممارسات التي تعكس ثقافة هذه المنظمة الرائدة.
1_ اللمسة الإنسانية:
الدكتور دينيس كورتيز رئيس مايو كلينيك في جاكسون فيل بولاية فلوريدا يرى أن أفضل الأطباء وأفضل مقدمي الرعاية الصحية هم بصورة جزئية مهندسون وبصورة جزئية فنانون. المهندس يفهم المشكلة ويقوم بتطبيق التكنولوجيا لحلها، ويستفيد المرضى من المهندسين في خدمات التصوير المقطعي والجراحات الموضعية المحدودة، والعلاجات المحددة الموجهة بالكمبيوتر. أما عن الطبيب كفنان فيصفه الدكتور دينيس كالتالي: “يعرف الفنان متى يكون المريض محتاجاً إلى ابتسامة دافئة، أو كلمات مطمئنة، أو عناق رقيق. فالفنان هو من يجعل كل مريض يشعر أنه موضع ترحيب، كما أنه يجعله يشعر بالراحة والأمان والأمل. حيث إن الفنان يرى القلق ويقوم بطمأنة الأم التي أنجبت حديثاً أن الحمى التي ألمت برضيعها لا تدعو للقلق. والفنان هو من ينصت إلى المريض البالغ منتصف العمر وهو يفرغ ما يعانيه من إحباط نتيجة محاولاته الفاشلة للإقلاع عن التدخين. وعندما يعجز المهندس عن فعل ما هو أكثر من ذلك حيال أحد المرضى، فإن الفنان يعرف ما يتوجب فعله ويقوم بمساعدة المريض والأسرة للتكيف في نهاية الحياة. وتلك الأمور التي يقوم بفعلها الفنان هي ما جعلني ألتحق بمهنة الطب”.
اللمسة الإنسانية نقابلها كثيراً في جولتنا في صفحات هذا الكتاب ومنها القصة التالية: بعد الإعصار الذي دمر مدينة نيو أورلينز عام 2005 تم إخلاء العديد من المرضى من المدينة ونقلهم إلى مستشفى مايو كلينيك بولاية فلوريدا. أثناء الاعتناء بإحدى المريضات لاحظ طبيب في قسم الطوارئ أن هذا اليوم يوافق تاريخ ميلادها ثم اكتشف أنه لا يوجد لها أسرة في جاكسون فيل لتحتفل معها بهذه المناسبة، ولا يوجد لها أقارب أحياء. فاتصل الطبيب بزوجته في المنزل وطلب منها احضار كعكة لحفل عيد الميلاد وكذلك أبنائها الصغار إلى غرفة الطوارئ حيث أقام حفلاً للمريضة جعلها تشعر بالبهجة.
2_ المريض أولاً:
مرضت سائقة إحدى شاحنات النقل خلال قيادتها في مدينة روتشستر فتوجهت إلى مستشفى تابع لمايو كلينيك، وركنت الشاحنة أمام المستشفى مباشرة وذهبت إلى قسم الطوارئ. نصحها الأطباء بضرورة إدخالها المستشفى فوراً. المريضة لم توافق في البداية، وبعد توجيه بعض الأسئلة اتضح أنها كانت قلقة لأن شاحنتها مركونة في الشارع وكلبها محبوس بداخل القاطرة. ثم تطوع الممرض لمعالجة مشكلة الشاحنة والكلب رغم أن هذا ليس من مهام وظيفته. لكنه فوجئ بحجم الشاحنة الكبير، فتذكر أن أحد زملائه من الممرضين كان يعمل كسائق شاحنة ولا يزال يحتفظ برخصته. وهكذا قام هذا الممرض بقيادة الشاحنة وركنها في مكان آخر. وكان ركنها لعدة أيام يتطلب عملاً آخر فاتصل الممرض بإدارة مركز التسوق المحلي وإدارة الشرطة، وحصل منهم على إذن بركن الشاحنة في مواقف مركز التسوق. أما الممرض الأول فقد اعتنى بكلب المريضة.
3_ العمل بروح الفريق:
في عام 1910 قال الدكتور وليام ج مايو إنه لا يمكن تلبية احتياجات المريض إلا من خلال الشراكات والعمل الجماعي فيما بين العاملين الذين يقدمون ويساندون رعاية المرضى. وقد أصبحت تلك المقولة أساساً لتعزيز مبدأ العمل بروح الفريق ويعتبره المستشفى أمراً ليس اختيارياً، وذلك من أجل وضع شعار (احتياجات المريض تأتي أولاً) موضع التطبيق. في هذا المستشفى لا أحد يتهرب من العمل بحجة (هذه ليست وظيفتي).
4_ المشاركة والالتزام:
القرارات في هذا المستشفى تتخذ عن طريق المشاركة وليست قرارات فردية. الناطق الرسمي بقرارات مجلس الحكام هو كبير المسؤولين التنفيذيين. ومن النادر وجود تصريح عام دون إجماع الزملاء على دعمه.
5_ بناء القوة المعيارية للقيادة:
المشاركة وتداول المناصب القيادية ورئاسة الأقسام والشعب السريرية وعضويات مجلس الحكام والمجلس التنفيذي، كانت أحد الأسباب التي جعلت مايو كلينيك يستمر لسبعة عقود محافظاً على أدائه من خلال عمل مؤسسي وليس الاعتماد على فرد واحد.
6_ تشجيع اللاحدود:
اللاحدود مصطلح تبناه المستشفى ويعني تشجيع الموظفين في قسم معين للاستفادة من الأقسام الأخرى. وبمعنى آخر عدم التقيد بالأدوار والمهام المحددة. اللامحدود يتيح المجال لتجاوز الفواصل التنظيمية من أجل تحقيق التعاون والعمل بروح الفريق عبر أجزاء المؤسسة بدلاً من أن يتم ذلك في إطار حدود تنظيمية محددة. هذا المفهوم يتيح المجال للاستفادة من المواهب المتخصصة والمعرفة المتاحة على حسب الحاجة، وإزالة الجدران بحيث يصير من الممكن تلاقي الموهبة والمعرفة في حالة الحاجة لذلك. بهذا المفهوم لا ينظر إلى طلب المساعدة في هذه المؤسسة كمؤشر على الضعف بل يعتقد موثقاً هذه التجربة أن أحد أعظم الإنجازات الثقافية لمايو كلينيك هو جعل طلب المساعدة سلوكاً طبيعياً ومتوقعاً.
7_ القوى البشرية:
الحصول على وظيفة في هذا المستشفى ليس عملية سهلة، هناك خطوات ومقابلات وعمليات تصفية حتى للوظائف الدنيا. التوظيف يبحث عن الأشخاص الذين يلتزمون بقيم ومبادئ المستشفى. كان التحدي هو المحافظة على مستوى الجودة في كل فروع المستشفى والعمل بنفس الروح. ومن أهم معايير التوظيف الموهبة والكفاءة. في توظيف الأطباء على سبيل المثال يجب أن يكون الطبيب متميزاً في الرعاية السريرية، فالأطباء قد يكونون باحثين ومعلمين ممتازين ولكن هذا لا يكفي، لا بد أن يكونوا أطباء ممتازين وأن يعرفوا كيف يعتنون بالناس.
مايو كلينيك يقوم بتعيين الأشخاص الذين تنطبق عليهم رؤيتها وأهدافها مسبقاً بدلاً من إضاعة الوقت في محاولة تعليمهم أسلوب العمل بها. يقول أحد الأطباء العاملين في المستشفى: “يبدو كما لو أن قيم مستشفى كلينيك قد تم بذرها في التربة في نفس الوقت الذي وضعت فيه أساسات المباني ويمكننا إيجاد هؤلاء الأشخاص، ولا نحتاج إلى إجراء عملية نقل لهم من المقر الأصلي (مينيسوتا)، حيث تنبت براعم جديدة في فلوريدا. وأنا أقابل روح مايو كلينيك في الأفراد عندما أمشي عبر وحدات المستشفى، وعندما أتحدث إلى الموظفين، وفي العيادة. وعلى الرغم من أنهم لم يذهبوا قط إلى روتشستر إلا أن قيم المستشفى فطرية وغريزية بداخلهم”.
ولابد هنا من الاشارة إلى أن عدد العاملين في المستشفى يبلغ (42000) موظف وطالب ومتطوع في مينيسوتا، وأريزونا، وفلوريدا.
أخيراً، فإن تجربة مايو كلينيك تتضمن تفاصيل ودروس إدارية كثيرة لا يتسع المجال لذكرها ولعلنا نشير إلى درس مهم نختم به هذا العرض وهو عنصر التخطيط. المؤسسان لهذا الصرح اعتزلا العمل عام 1932 لكن المؤسسة تمكنت من البقاء والاستمرار من خلال خطة التعاقب أو التخطيط للتعاقب. استمرار الجودة والبحث عن الأفضل والعناية الإنسانية بالمريض، والتقدم المهني، والتكيف للاحتياجات المتغيرة للمجتمع. ورغم التوسع الجغرافي لهذا الصرح الطبي فقد حافظ على علامته التجارية ومستوى الجودة، واستنساخ ثقافته الأصلية في الفروع الجديدة.
Yousef_ [email protected]