وقفات مع الخصخصة ومعانيها
بقلم / د. عبد الوهاب بن عبد الله الخميس
مجلة الجودة الصحية _ دينا المحضار
لعلي أقف مع الخصخصة في القطاع الصحي وقفات سريعة علما بأنه يمكن الاطلاع على تفاصيل أكثر في الورقة العلمية التي سبق أن نشرتها حول خصخصة الخدمات الصحية وأثرها في حصول الرعاية الصحية: أولا: تختلف الدوافع أو الأهداف التي تطمح الدول إلى تحقيقها من خلال الخصخصة. فبينما كانت الصعوبات المالية أحد أهم الأسباب التي دفعت الدول محدودة الدخل للتوجه نحو الخصخصة، نجد أن الدول المتقدمة تسعى من خلال الخصخصة إلى دعم كفاءة قطاعاتها الحكومية خصوصا في فترة ثمانينيات القرن الماضي. ولعل من أهم الشخصيات التي تولت دعم هذا التوجه الرئيس الأمريكي ريجان والمرأة الحديدية في بريطانيا مارجريت ثاتشر. ثانيا: الخصخصة بالمعنى العلمي تعني تحويل ممتلكات القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص (سواء كان القطاع الخاص ربحيا أو غير ربحي). وللخصخصة أربع صور رئيسة: 1. خصخصة القطاع الصحي، بحيث يتم تمويل القطاع الصحي عبر القطاع الخاص. فالخصخصة قد تتفاوت تطبيقاتها بين الدول وبنسب متفاوتة لكن تظل الولايات المتحدة النموذج الأشهر لخصخصة القطاع الصحي ومع ذلك مازالت الحكومة الأمريكية تشارك في حدود 52 في المائة من الميزانيات الصحية. فالحكومة الفيدرالية الأمريكية تتولى تقديم الرعاية الصحية للمتقاعدين لمن تجاوز 65 عاما عبر Medicare، بينما تتولى الولايات أو الحكومة المحلية داخل كل ولاية تقديم الرعاية الصحية للفقراء وأصحاب الدخل المحدود عبر Medicaid التي تختلف فيما بينها في تصنيفها لمعدل الفقر والشروط التي تضعها للمستفيدين من هذا البرنامج. كما أن الحكومة الفيدرالية أو الولايات تتولى تقديم رعاية صحية للأطفال والعسكريين وبعض فصائل الهنود الحمر وغيرهم. ما يعنينا في الموضوع أن الحكومة الأمريكية وإن اعتبرت من أكثر الدول تطبيقا للخصخصة لكنها ما زالت تتولى تقديم الرعاية الصحية لبعض مواطنيها. وكان أحد أهم أهداف مشروع أوباما كير -الذي يسعى الرئيس الأمريكي رونالد ترمب لإبطاله ـــ توسيع شريحة المستفيدين من الرعاية الصحية المقدمة من قبل الحكومة الأمريكية. خصخصة النظام الصحي من أسوأ أنواع الخصخصة لأنها ترفع التكلفة العلاجية وتعوق حصول الرعاية الصحية خصوصا لكبار السن وأصحاب الدخل المحدود. لذا لا توجد أي دولة غربية طبقت هذا النوع من الخصخصة عدا الولايات المتحدة. هذه الحقيقة تعكس جزئيا فشل النظام الصحي الأمريكي في توفير الرعاية الصحية لكل الناس. فلم يمنع وجود تنافسية عالية بين مقدمي الرعاية الصحية (المستشفيات) وتنافسية أخرى بين شركات التأمين من الحد من الارتفاع المتواصل للرعاية الصحية في أمريكا حيث تجاوز 17 في المائة من دخلها وتسبب في وجود 42 مليون شخص دون رعاية صحية (الرقم مختلف حوله). بل إن التقرير الأخير الصادر قبل أقل من شهر جعل نظام الولايات المتحدة أسوأ نظام صحي بين 11 دولة غنية. السؤال الحيوي في هذا السياق: لماذا اختارت الولايات المتحدة نظاما فريدا بين كل الدول الغربية وفضلت خصخصة نظامها الصحي؟ وإجابة هذا السؤال لها أكثر من محور لكن بصورة مبسطة مرتبطة بكونها دولة تمثل الرأسمالية بصورتها الكاملة. فحرية الاختيار جزء من الثقافة الأمريكية ويتم النظر لتدخل الحكومة في تقديم الخدمات على أنه مناقض لمبادئ الرأسمالية والحرية (خصوصا أثناء فترة وجود معسكر مناهض للديمقراطية ويدعم الاشتراكية كالاتحاد السوفياتي الذي يمتاز بتدخل الحكومة في شتى مناحي الحياة). السؤال الآخر: إذا كانت خصخصة النظام الصحي ليست الخيار الأفضل، فلماذا فضل بعض الدول محدودة الدخل تطبيق هذا النوع من الخصخصة؟ والجواب عن هذا السؤال الصحيح أن البنك الدولي (عنوان للرأسمالية وممول من أمريكا بصورة رئيسة) يشترط على الدول الفقيرة قبل إعطائها تمويلا ماليا لدعم خدماتها الصحية أن تطبق التأمين الصحي التجاري خصوصا community health insurance لذا نجد انتشار هذا النوع من التأمين التجاري في إفريقيا والدول الفقيرة بشكل عام. وهناك عديد من الأوراق العلمية والتقرير حول هذا الموضوع. 2. النوع الثاني من الخصخصة هو خصخصة تقديم الرعاية الصحية كالمستشفيات وخلافه. وتعني نقل ملكيتها من القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص (سواء كان تجاريا أو غير ربحي). وهذا النوع من الخصخصة يختلف تأثيره باختلاف المتغيرات الأخرى خصوصا الدافع للتوجه نحو هذا المسار من الخصخصة. ولعل هذه الصورة من الخصخصة تعد النموذج الأكثر ارتباطا بالخصخصة. 3. النوع الثالث خصخصة إدارة المستشفيات أو عمل عقود لإدارة المنشأة الصحية مع القطاع الخاص لتقديم بعض الخدمات دون نقل ملكية من القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص. وقد يكون العقد يشمل تقديم كامل الخدمات أو مقتصرا على خدمات شاملة أو محددة بما في ذلك الخدمات الطبية أو التشخيصية أو المساندة أو التأهيلية أو الوقائية أو التشغيلية. 4. النوع الرابع من الخصخصة مرتبط بالاستثمار في القطاع الصحي الخاص وزيادة مشاركته في تقديم الخدمات الصحية. البعض نظر للخصخصة على أنها خصخصة كلية أو خصخصة جزئية. في تصوري بغض النظر عن الإغراق في تعريفات مختلفة، لكن الأهم في هذا السياق معرفة الهدف من الخصخصة؛ لأن الخصخصة ليست غاية في ذاتها وإنما وسيلة لتحقيق أهداف محددة. لذا فنجاح الخصخصة مرتبط بمدى تحقيقها الأهداف المرجوة منها. فمثلا إذا كان الدافع للسير نحو الخصخصة زيادة كفاءة أداء المستشفيات فقط فقد تتحقق هذه الغاية برفع كفاءة الأداء للمنشأة الصحية، وإن كان ذلك على حساب الاستغناء عن بعض الخدمات غير المجدية ماديا التي قد يحتاج إليها بعض المرضى. أما إذا كانت الخصخصة هدفها المحافظة على استمرارية المنشأة الصحية وحمايتها من الإغلاق مستقبلا لأسباب مرتبطة بالعجز المالي، فاستمرارية المنشأة هدف في حد ذاته. شخصيا أرى أن يتم قياس أثر الخصخصة وفقا لتأثيرها في القطاع الصحي وفي أعمدته الثلاثة الرئيسة: الجودة والتكلفة وحصول الناس على الرعاية الصحية. هذه الأعمدة الثلاثة مهم جدا قياس أثر الخصخصة فيها لأنها الأسس الرئيسة التي يسعى كل صانع قرار إلى التوازن فيما بينها. فحصول الناس على الرعاية الصحية بجودة عالية مع الحد من ارتفاع التكلفة العلاجية من أهم التحديات التي تواجه أي صانع قرار صحي، والخصخصة من الممكن أن تحقق هذه الغاية إذا ما طبقت بالشكل الصحيح.