فشل الأسواق في الرعاية الصحية
بقلم / سعود بن هاشم جليدان
مجلة الجودة الصحية – دينا المحضار
يتبنى غلاة الرأسمالية المتوحشة عدم التدخل في الأسواق وتركها لتوفير رعاية المجتمع الصحية. وسيكون هذا مقبولا لو استطاع جميع أفراد المجتمع الحصول على الرعاية الصحية بمواردهم الذاتية، ووجدت سوق تنافسية لمقدمي الخدمات الصحية من شركات تأمين ومؤسسات رعاية صحية. وتتطلب السوق التنافسية عدة أشياء من أهمها توافر معلومات متماثلة بين عدد كبير من عارضي الخدمات والسلع وطالبيها. ومنذ القدم تثبت التجارب التاريخية في جميع الدول والمجتمعات فشل الأسواق في توفير الرعاية الصحية لأفراد المجتمع كافة. وعلى العموم تفشل الأسواق في توفير رعاية الصحية مرضية لأن هدف منتجي الخدمات الصحية تعظيم الأرباح، بينما يستهدف المجتمع تعظيم المنافع الصحية. ولا تنجح الأسواق أيضا لأن منافع الرعاية الصحية الاجتماعية أعلى من منافعها الشخصية، ولهذا تعتبر خدمات متميزة يجب أن تتدخل الدولة في توفيرها وتقنينها وضمان وصولها إلى فئات المجتمع كافة.
يحول تدني دخول الشرائح السكانية الفقيرة وجزء كبير من الشرائح السكانية متوسطة الدخل دون تمتعها بغطاء شامل للمخاطر الصحية. ويمكن الحصول على الرعاية الصحية من الأسواق إما بالدفع من الجيب أو شراء غطاء تأميني ضد المخاطر الصحية. وباستطاعة كثير من الأفراد والأسر الدفع من الجيب في حالة العوارض المرضية البسيطة، ولكن يصعب على كثيرين تحمل تكاليف الأمراض المزمنة أو العمليات الجراحية أو الفحوص الطبية المعقدة. أما بالنسبة لسوق التأمين الصحي فإن شركاته تستهدف تعظيم أرباحها، لهذا تحاول قدر المستطاع خفض المخاطر التي تواجهها من خلال تجنب تغطية الفئات عالية المخاطر ورفع تكاليف التأمين عليها. وفي المقابل فإن المعرضين أكثر للمخاطر الصحية يسعون للحصول على تغطية للحد من تأثير تلك المخاطر على معيشتهم. ومن أبرز الأمثلة على تجنب شركات التأمين المخاطر المرتفعة تحاشيها توفير تغطية صحية لكبار السن إلا بمبالغ عالية، وتفاديها تقديم تغطية تأمينية كاملة للأمراض المستعصية والمزمنة حيث تضع شروطا معقدة للتأمين على من يعانون تلك الأمراض. من ناحية أخرى تقل الرغبة في الحصول على تأمين صحي لدى الأشخاص منخفضي المخاطر الصحية، بينما ترحب شركات التأمين بتوفير تغطية لهم. إضافة إلى ذلك تعاني سوق التأمين بعض التصرفات غير الأخلاقية حيث يشجع توافر تأمين صحي بعض المغطى لهم على زيادة استخدام الخدمات الصحية، كما يغري مزودي الخدمات الصحية برفع الأسعار أو المبالغة في تقديمها فوق الحاجة، وهو ما يرفع تكاليف التأمين على عموم المرضى.
لا تهتم الأسواق بقضايا الفقر ولهذا تفشل فشلا ذريعا في التصدي له، كما لا تحرص كثيرا على توفير منتجات للفقراء لأن المكاسب منهم محدودة. ولا يستطيع معظم الفقراء شراء تغطية تأمينية لأسرهم لأن التكاليف عادةً فوق إمكانياتهم. ويسري التحليل نفسه على العاطلين عن العمل وكذلك على نسبة كبيرة من كبار السن والمتقاعدين وشرائح كثيرة من متوسطي الدخل. توفر الأسواق الرعاية الصحية للقادرين على تحمل تكاليفها، وتنخفض نسبة المقتدرين في كثير من الدول وخصوصا في الدول النامية ومنخفضة الدخل. كما لا توفر الأسواق أيضا تغطية شاملة ضد الأمراض المعدية والأوبئة، ولا تكترث كثيرا بوسائل الوقاية الأمر الذي يستدعي تدخل الدولة لتوفير الغطاء الصحي على الأقل لغير المقتدرين.
يأتي عدم التماثل في المعلومات بين مزودي الخدمة ومستهلكيها من أبرز أسباب فشل الأسواق، حيث يعاني المرضى نقصا كبيرا في المعلومات وهو ما يسمح لمزودي الخدمات باستغلال هذا النقص في تعظيم أرباحهم. ولا تتوافر لدى المرضى معلومات كافية عن طرق الكشف والعلاج والأدوية والبدائل المطروحة والمخاطر المحيطة بها، ويسلم معظمهم مسائل تحديدها وتكاليفها للأطباء، وبهذا يقوم الأطباء بدور العارض والطالب للخدمات والمواد والأدوية الطبية. وقد يستغل بعض الممارسين الطبيين أو المؤسسات التي توظفهم نقص المعلومات، وأهمية العلاج، والحاجة الشديدة إليه، ومحدودية البدائل لتعظيم أرباحهم وهو ما يتسبب في رفع تكاليف الرعاية الصحية وزيادة مخاطر العلاج على المرضى. ويرى عديد من المختصين أن تزويد المرضى بالمعلومات وتيسير الحصول عليها من أفضل السبل للحد من تكاليف الرعاية الصحية ومخاطرها.
تتركز مؤسسات الرعاية الصحية في التجمعات السكانية الكبيرة والمرتفعة الدخل الأمر الذي يرفع تكاليف الحصول عليها في باقي البلاد وسكانها. وهناك شواهد على اتصاف صناعة الرعاية الصحية باقتصاديات الحجم وهو ما يرجح سيطرة عدد قليل من المنتجين على الصناعة ونشوء احتكارات مع مرور الوقت. وتبدو الأسواق عاجزة بعض الشيء عن توفير منافسة مرتفعة في الرعاية الصحية ويظهر هذا جليا في الحالات الطارئة، وذلك ما يتسبب في رفع كبير لتكاليف الحالات الحرجة وتصاعد تكاليف التأمين أو الدفع من الجيب. كما تختلف طرق الرعاية والأدوية والعلاج من مؤسسة صحية إلى أخرى لهذا يصعب تحديد ومقارنة الأسعار على الفرد العادي. يقود نشوء قوى احتكارية لدى المؤسسات الصحية الخاصة والجمعيات الصحية المهنية إلى رفع الأجور والأسعار. وتوجه اتهامات في عدد من البلدان بوقوف الجمعيات المهنية الطبية أمام زيادة عدد الممارسين الصحيين من خلال وضع قيود وشروط قاسية للدخول إلى هذه المهن، ما يقود إلى نقص الكوادر الطبية ورفع أجورها وتكاليف الرعاية الطبية