الرعاية الصحية الأولية هل هي عروس مجلوة؟
بقلم/د.زهير السباعي
مجلة الجودة الصحية_ دينا المحضار
اطلعت على تقرير لوزارة الصحة، يتحدث عن دور القطاع الأهلي في الرعاية الصحية الأولية. وأجدها فرصة لإلقاء الضوء على الرعاية الصحية الأولية من جهة، وعلى الدور الذي يمكن للقطاع الأهلي القيام به حيالها من جهة أخرى.
الرعاية الصحية الأولية.. هل هي عروس مجلوة؟
في وثيقة منظمة الصحة التي صدرت عن مؤتمر الما آتا بكازاخستان في عام 1978 وشاركت فيه نحوا من 120 دولة اتفقت بالإجماع على أن الرعاية الصحية الأولية هي حجر الأساس في الرعاية الصحية في أى مجتمع، سواء كان ذلك في غرب أوروبا أو في أواسط أفريقيا. السمات البارزة للرعاية الصحية الأولية – كما حددتها الوثيقة – تتلخص في التالي:
* هي رعاية لا تعتمد على المباني الفخمة أو الأسرة أو الأجهزة أوالمعدات بقدر ما تعتمد على تهيئة العاملين فيها (عادة طبيب أو أكثر مع بضعة من أفراد الفريق الصحي) لأداء دورهم كما يجب.
* تقدم الرعاية الصحية من خلال المركز الصحي. وإذا ما أحسن إعداد الفريق الصحي فيه، وأحسنت إدارته، وهيئت له الوسيلة للخروج بخدماته إلى خارج جدرانه، فسيصبح قادرا على تغطية 85% من جميع الاحتياجات الصحية (العلاجية والوقائية) للمجتمع. ومن هنا نجد دولة مثل السويد أصبحت تغلق بعض مستشفياتها لتنشئ بديلا عنها مراكز للرعاية الصحية الأولية..!
* أما النشاطات التي يمكن للمركز الصحي أن يقدمها للمجتمع فتشتمل – إلى جانب علاج المرضى – على التثقيف الصحي، وإصحاح البيئة، وبرامج التغذية، والاكتشاف المبكر للأمراض، ورعاية الأمومة والطفولة، والوقاية من الأمراض المعدية والمزمنة. وكلها نشاطات لا يمكن أن تؤدى إلا بخروج أعضاء الفريق الصحي إلى المجتمع. ليس ذلك فحسب وإنما أيضا بمشاركة أفراد متطوعين من المجتمع في التخطيط والتنفيذ والمتابعة والتقييم لهذه النشاطات.
هل تراني أتجاوز حدودي لو أني قلت وبنفس مطمئنة أنه لا توجد دولة عربية واحدة تهيئ الطبيب وفريقه الصحي لأداء هذه الأدوار. وإنها والحق يقال فرصة ذهبية للمملكة أن تبدأ المسيرة مسترشدة برؤية 2030. ولتصبح بذلك رائدة على مستوى العالم العربي.
أما السؤال المطروح فهو.. ما هي المعوقات التي تواجهنا في مجتمعاتنا العربية لتحقيق مفهوم الرعاية الصحية الأولية بشكلها الصحيح؟ يأتي على رأسها في رأيي:
* في بلادنا العربية كثيرا ما نعنى بالشكل قبل المضمون، أى بمبنى المركز الصحي.. بطوله وعرضه وواجهته، وبما يحويه من أجهزة ومعدات قد تكلف الملايين. في حين أن هذه الملايين أو أكثرها لو صرف على تأهيل وتدريب العاملين الصحيين، وحسن إدارتهم، وتشجيعهم على الخروج إلى المجتمع، والتعامل مع المشاكل الصحية من مصبها ومنشئها بدلا من انتظار المرضى بعد أن يكونوا قد أصيبوا بالمرض، لكان ذلك أولى وأجدى.
* التعليم الطبي في كليات الطب، والمعاهد الصحية، وبرامج الدراسات العليا بالرغم مما يصرف عليها من أموال وجهود تستدعي منا الشكر والتقدير، إلا أنها تفتقد – إلى حد بعيد – إلى ربطها بطبيعة المشاكل الصحية في المجتمع.
* المعايير التي نتخذها في عالمنا العربي لتقييم الخدمات الصحية تعتمد أساسا على ما حققناه من عدد المستشفيات، والمراكز الصحية، والأسرة، والأطباء. هذه المعايير وحدها لا تكفي وإنما يجب أن يرافقها بل ويتقدمها الإحصاء الحيوى الذي يحدثنا عن الانخفاض الذي حققناه في معدلات الأمراض والوفيات. هذا الإحصاء الحيوي غير متوفر بدقة كافية في مجتمعاتنا العربية.
* والنتيجة الحتمية هي أن مراكز الرعاية الصحية الأولية تركز على علاج المرضى. وإذا ما كان هناك بضعة من النشاطات الوقائية أو التطويرية فهي محدودة وغير كافية.
ولنعد الآن إلى تقريرنا لنضعه تحت المجهر.
* التقرير منشور باللغة الإنجليزية ويقع في 40 صفحة. كان من الأولى أن يكون باللغة العربية إذا ما أريد له أن يقرأ ويستفاد منه على مستوى واسع. قد تكون هناك نسخة منه باللغة العربية ولكني لم أعثر عليها.
* مفهوم الرعاية الصحية الأولية لدي معدي التقرير يرتكز على تخفيف الضغط على المستشفيات. ذلك بدلا من المفهوم الذي يجب أن تقوم به المراكز الصحية، أى الإسهام في رفع مستوى الصحة في المجتمع، وهو التوجه الذي تنادي بها رؤية 2030.
* يشير التقرير إلى أن المملكة تفخر بسهولة وصول المرضى إلى المراكز الصحية. دعنا لا نختلف على هذا. ولكن أين الجانب الآخر والمهم وهو خروج الرعاية الصحية إلى المجتمع ومشاركة أفراد من المجتمع فيها؟
* أشكر لواضعي التقرير أن وضعوا أصابعهم العشرة على العامل الأساس وراء عدم قيام مراكز الرعاية الصحية الأولية في المملكة بدورها كما يجب. ذلك هو عدم تأهيل الفريق الصحي وعلى رأسه الطبيب لهذا الدور.
* لفت نظري في التقرير أن مراكز الرعاية الصحية الأولية التي يفترض أن يقوم القطاع الأهلي بتشغيلها ستكون تحت إدارة في وزارة الصحة تسمى Primary Care Business Unit. هذا التعبير يثير لدي شيئا من الحساسية.
أرجو ألا تتحول الرعاية الصحية الأولية إلى مفهوم يسيطر عليه فكرة الربح وحدها. إذ إنها في هذه الحالة لن تعنى الا بتقديم العلاج للمرضى.
* المعايير التي وضعها التقرير لقياس نجاح القطاع الأهلي في تقديم الرعاية الصحية الأولية ثلاثة: رضاء المرضى، ورفع مستوى الأداء، وتخفيف العبء المالي على وزارة الصحة. أما تخفيف العبء المالي على وزارة الصحة فأمر لا مشاحة فيه. وليسمح لي معدو التقرير أن أقف قليلا عند المقياسين الأخيرين.
* ما أسهل الوصول إلى رضاء المرضى! يكفيك أن تقف على رأس الشارع سواء كنت في مدينة أو في قرية لتسأل عينة من الناس عما يطلبونه من الرعاية الصحية. أراهنك على أن إجاباتهم لن تعدو: توفير المزيد من الأطباء وهيئة التمريض (حبذا لو أنهم تواجدوا على مدار الساعة)، وكمية وافرة من الدواء (عسى أن تكون الإبر على رأسها)، وجهاز أشعة ومعمل (وربما فوق البيعة) جهاز للرنين المغناطيسي!
وستجدهم – لعمرك – يغفلون جوانب أخرى لاحتياجاتهم الصحية لا تقل أهمية إن لم تزد عما عبروا عنه، منها: البيئة السليمة، والتغذية الصحية، والاكتشاف المبكر للأمراض، وبرامج التثقيف الصحي، ورعاية الأمومة والطفولة، والصحة المدرسية الوقائية، والوقاية من تسوس الأسنان، وغيرها من البرامج الوقائية والتطويرية. باختصار.. رضاء الناس معيار لا يكفي وحده لقياس نجاح الرعاية الصحية الأولية.
* شيء جميل أن نجعل قياس مستوى الأداء معيارا للنجاح. بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: بأى معيار نقيس مستوى الأداء؟. إن كنا سنقيسه بعدد المرضى الذين عالجهم الطبيب، أوكميات الدواء التي صرفت، أو جمال وروعة المبنى الذي أنشأناه، فهو – في رأيي – قياس غير كاف. مستوى الأداء يجب أن يقاس بمقدار ما حققناه فعلا من ارتفاع في مستوى الصحة، وانخفاض في معدلات الأمراض والوفيات.
أترك التقرير جانبا وقد علقت على نصف ما جاء فيه، وأنتقل إلى تصوراتي الشخصية لبعض الأسئلة التي يجب أن نطرحها على أنفسنا كيما نرتفع بالرعاية الصحية الأولية إلى مستوى المعايير الدولية.
* نجحت كثير من الدول في مشاريع الرعاية الصحية الأولية بالاكتفاء ببناء بسيط (ربما قدمه السكان تبرعا منهم كلون من ألوان مشاركة المجتمع) ليصبح مركزا تنطلق منه الرعاية الصحية الأولية بكل أبعادها. والأمثلة على ذلك كثيرة لمستها في زياراتي لمشاريع الرعاية الصحية الأولية في دول مثل إيران (في السبعينيات الميلادية)، والصين، وبورتريكو، والبرازيل، وفنلندا، والسويد،. ومن ثم تصرف الأموال من أجل تطوير نشاطات الرعاية الصحية الشاملة.. العلاجية والوقائية.
* كيف لنا أن نفعل دور أفراد المجتمع للمشاركة تطوعا في التخطيط والتنفيذ والتقييم لمشاريع الرعاية الصحية الأولية المقدمة لهم؟
* كيف نستطيع أن نقنع شركات التأمين بأن بذلهم للمال والجهد في المشاريع الوقائية سيعود عليهم بالخير العميم، لأنه سيخفف عنهم تكلفة العلاج؟
* هل لنا أن نعيد النظر في النظام الذي يضع مراكز الرعاية الصحية الأولية تحت إشراف المستشفيات حتى لا يتمحور دورالمراكز الصحية حول استقبال المرضى. أدعو إلى الرجوع إلى وثيقة منظمة الصحة العالمية who series no744 tech rep بعنوان «المستشفيات من أجل مراكز الرعاية الصحية الأولية». كما أدعو إلى الأخذ بالتوجه العالمي لجعل المستشفيات معززة للصحة (Health Promoting Hospitals).
* هل لنا أن نعيد النظر في مناهج كليات الطب والمعاهد الصحية والدراسات العليا لكي تخرج لنا أفراد الفريق الصحي الذين يعنون بالوقاية عنايتهم بالعلاج؟
* كيف لنا أن نقنع المسؤولين عن الدراسات الطبية العليا – والذين لا ننكر جهودهم المتواصلة – بأن فصل برنامج الدراسات العليا لطب الأسرة عن برنامج الدراسات العليا لطب المجتمع أمر لا مبرر له. والأولى أن نحافظ على مفهوم «طب الأسرة والمجتمع» معا كيما تلتحم الوقاية مع العلاج في التصدي للمشاكل الصحية.
* في حالة قيام القطاع الأهلي بإدارة الرعاية الصحية الأولية،كيف يمكننا تحقيق التوازن بين الربح الذي ينشده القطاع الأهلي، وخروج الرعاية الصحية الأولية إلى المجتمع لرفع مستوى الصحة، وهو أمر لا ربح فيه إذا ما قورن ببقاء العاملين الصحيين داخل عياداتهم يعالجون المرضى.
لا يسعني في نهاية المطاف إلا أن أثني على اهتمام وزارة الصحة بالرعاية الصحية الأولية. إذ جعلتها من بين أولياتها، وهو نفس الاتجاه الذي اتخذته رؤية 2030. وإذا ما كانت هناك اختلافات في وجهات النظر حول وسائل الإعداد والتطبيق فيمكن حلها عن طريق الجلوس إلى مائدة مستديرة يدعى اليها ممثلون عن التعليم الطبي، والخدمات الصحية، والقطاع الأهلي، ليجيبوا عن السؤال: ما الذي يمكننا أن نفعله معا لكي نرتفع بالرعاية الصحية الأولية إلى مستوى المعايير الدولية؟