سكري السعوديين في مستشفيات لندن
بقلم/د. صالح بن سعد الأنصاري
الصادرة من صحيفة تواصل الألكترونية
مجلة الجودة الصحية – دينا المحضار
قال أحد متابعي في تويتر وسناب شات: “دكتور.. كانت أمي (حفظها الله) تعاني من داء السكري منذ 14 سنة. وكانت قراءات سكر الدم تصل إلى400 ملجم. كما كانت تعاني أيضا من ارتفاع كوليسترول الدم وارتفاع ضغط الدم وأمراض شرايين القلب، إضافة إلى الروماتيزم. ولم تكن تمارس أي نوع من الرياضة لكنها كانت تعرف بشكل سطحي أنها ممنوعة من بعض الأكلات والسكريات والدهون. ووصل بها الحال أنها كانت تتناول 17 حبة من الأدوية. وفي عام 2016 م وبعد أن استمرت قرائتها بشكل مقلق ولفترة طويلة تدهورت حالتها فأدخلت المستشفى، وكانت تجد رعاية متقدمة من أفضل الأطباء في أرقى المستشفيات الحكومية بالرياض، وقرر الأطباء أن تجرى لها عملية في القلب لتبديل اثنين من شرايين القلب على الأقل، إلا أن الوالد (حفظه الله) رفض إجراء العملية، وقرر أخذها إلى لندن للعلاج على حسابه الشخصي.
وفي لندن قررالأطباء بأنها قد لا تحتاج إلى عملية في القلب، وستحتاج إلى مراقبة قبل أن يتقرر هل يفتح القلب أم لا، ونصحوها بالمشي حول سور المستشفى، وقد كنا نسكن بالقرب من المستشفى هناك. فبدأت الوالدة في المشي ما يقارب كيلو إلى كيلوين في اليوم مع اتباع نظام غذائي صحي. وبعد ثلاثة أسابيع قرر الأطباء بأن مؤشرات صحتها تحسنت بنسبة 30% و أوصوا بأن تستمر في استخدام أدويتها والمشي.
وبعد أن رجعنا الرياض بداية 2017 استمرت في المشي، ومع التحسن الذي لاحظته بسبب المشي زاد اهتمامها، وساعدناها في الاطلاع على المزيد عن رياضة المشي وفي متابعة حسابك يا دكتور في سناب شات وتويتر. وواصلت اهتمامها وزاد حماسها لممارسة المزيد من المشي بالإضافة إلى استمرارها على الأدوية تحت إشراف نفس الأطباء الذين كانوا يتابعونها قبل السفر. ومع التحسن المضطرد في قراءاتها قلصوا كمية وجرعات الأدوية، واستمرت في ممارسة المشي إلى أن أصبحت تمشي كل صباح ما بين ستة إلى عشرة كيلو.
ولله الحمد أن كل الأمراض التي ذكرتها اختفت نهائيا خلال أقل من سنتين، بما فيها مشكلة القلب، وهي الآن بصحة ممتازة، ومستمرة في عمل الفحوص المطلوبة كل ستة أشهر وتظهر كلها بأنها طبيعية رغم إيقاف كل الحبوب السبع عشرة التي كانت تتناولها. واليوم تنام الوالدة بخير وتقوم بخير، وكثيرا ما أصبحت تكرر القول “رياضه المشي هي أفضل مسكن للجسم” ومازالت (حفظها الله) تمشي صباحا وليلا ما بين 11 إلى 12 كيلو، ويرجع الفضل إلى الله تعالى ثم بفضل متابعتها لك يا دكتور في سناب شات وتحفيزك وتوعيتك عن رياضة المشي. وما زلت أشكرك وأشكرك وأشكرك يا أبا سعد، والله يعطيك الصحة والعافية”
انتهى اقتباسي لهذه القصة التي راجعتها مع ابنها قبل النشر، لكن لم ينته استغرابي ولا تساؤلاتي عن دور نظامنا الصحي الذي عليه أن يتساءل عن النصيحة الأصيلة في الطب التي تنسب إلى أبقراط ويتعلمها طلاب كليات الطب والدراسات العليا“ أولا وقبل كل شيء، لا تفعل ما يؤذي المريض”وعلى نظامنا الصحي أيضا أن يتساءل، لم لا يستثمر نصيحة أبقراط الأخرى“المشي أفضل علاج للإنسان” وكم نسبة من يعطى من مرضانا فرصة لتعديل النمط المعيشي قبل أن يصل إلى استخدام سبع عشرة حية من الأدوية الله أعلم بتأثيرها النهائي على المرضى والوفيات، وكم يؤثر الاكتفاء بها على حتمية الوصول آخر المطاف إلى نفس المضاعفات إذا ما وصفت من دون تعديل النمط المعيشي ولا ممارسة الرياضة.
وهل يجب أن يصل الكثير من المرضى (على حسابهم الشخصي، أو على حساب الدولة) إلى لندن ليعرفوا أنهم سيستفيدون من المشي لتخطي المضاعفات التي تهدد حياتهم؟ ولو استمرت أم صاحبنا في خط “عمليات القلب” فماذا عن شرايين الدماغ التي تتأثر بنفس الحالة المرضية والتي لا يمكن استبدالها (فيما يبدو من التطور الذي وصلت إليها المستشفيات في العالم ولدينا!!!؟) وماذا لو لم يهتد الأطباء الذين عاينوها في لندن لهذا الاستنتاج ومضوا في اتجاه استبدال الشرايين و ”سلخوا” من ميزانية الأسرة أو الدولة كلفة عملية لتغيير شرايين القلب في لندن؟
قد يقول أحدهم، ربما هذه حالة نادرة والأصل الاستمرار في صرف الأدوية لئلا نخاطر بحياة المرضى بحماس، وهنا أقول:إن أم صديقنا قد تركت الأدوية بالتدريج وتحت إشراف طبي وعلى مدار عامين تقريباً. وأتفق مع أهمية التوازن بين الحماس لدعم المرضى بآليات توظف المشي والنمط المعيشي وتوازن ذلك مع التدرج في إيقاف الأدوية.
أما إذا قيل لنا بأن هذا ليس من طبيعة نظامنا الصحي ولا مما تعودنا طرحه في كليات الطب والمستشفيات والتعليم الطبي، فسأقول لقد تعلمنا قبل حوالي 40 سنة في كلية الطب أن نعطي المريض فرصة في تغيير النمط المعيشي قبل وصف العلاج. وسأقول بأن التفكير الذي يأخذنا نحو استفراغ خزائن الصحة ومعها الإسهام في تدهور حياة المرضى جدير بأن نستبدله بغيره، خصوصا إذا لم يظهر في الأفق أي تباشير للتغيير، ولم يعد بالإمكان حل المشكلات بنفس طريقة التفكير التي أوجدتها.
وعلى زملائي الأطباء الذين هم أكثر فئة تتعرض للاحتراق الوظيفي، ومن أسباب ذلك أنهم يرون مرضى الأمراض المزمنة الذين يملؤون معظم التخصصات وتزداد حالاتهم سوءا يوما بعد يوم، وقد نذر هؤلاء الأطباء أنفسهم لنفع مرضاهم لا إدخالهم في نفق لا نهاية له سوى المضاعفات والموت كما تقول د. ستانسيس سارايوالتي شفيتهي نفسها من مرض التصلب اللويحي من خلال النمط المعيشي وكتبت كتاب “ماذا ينقص الطب” لتتحدث عن دور النمط المعيشي في التخلص من الأمراض التي أصبحت تسمى “أمراض النمط المعيشي” و “أمراض العصر” و “أمراض الجلوس”، وكما يقول د. ميور جراي الذي كتب مقالاً شهيراً طالب فيه بإعادة تسمية السكري بـ“متلازمة نقص المشي” وأدعو هؤلاء الزملاء أيضا للتأمل حول أسباب ارتفاع نسبة السكري في المملكة من 5 % إلى حوالي 30% خلال حوالي 40 سنة وتأمل الدور الذي لعبه اختلال النمط المعيشي والخمول. كما أذكر زملائي الأطباء بأن يتأملوا القدرة المعجزة في الجسم على التعافي والإلتئام بمجرد إيقاف “السموم” التي أدت إلى المرض وممارسة النشاط البدني الذي يسرع عمليات التعافي، وكم أن هذه القدرة معجزة مقارنة بما قد يحدثه الدواء وحده.
أما إذا قال قائل “المرضى لا يسمعون الكلام” فسأقدم لهم عشرات من “قصص المشاة” والمستفيدين من مبادرة “مشاة السعودية” ومجموعات المشي وغيرهم من أصحاب القصص التي نشرت أو لم تنشر ممن اتخذوا من المشي بداية وأتبعوه بتحسين النمط المعيشي وتوقفوا (تحت إشراف طبي) عن تناول بعض أو كل الأدوية التي كانوا منتظمين عليها لسنوات طويلة. ويؤسفني أن الكثير من تلك القصص كانت تبدأ بقول المريض “في أول التشخيص، طلبت من الطبيب أن يعطيني فرصة قبل البدء بالأدوية لأمارس المشي وأغير من سلوكيات الغذاء والنمط المعيشي، إلا أن الطبيب رفض فكرتي وأصر على البدء بالأدوية” وربما كان ذلك “وفق البروتوكولات” كما سأقدم لمن لا يؤمن بإمكانية تغيير السلوكيات قصص العديد من المرضى الذين يستشيرونني وأشرف على متابعتهم وينجحون في التغييرات الجذرية التي تنتهي بممارسة مشي المسافات الطويلة وتغيير أنماط المعيشة وفقد الوزن الزائد والاستغناء عن الأدوية.
إننا بحاجة لأن نحلم بأن تتحول الرياض “عاصمة الطب” إلى أن تصبح “عاصمة الصحة” لتنطلق منها توجهات التركيز على تعزيز صحة المرضى وتطبيق كل ما ثبت من الطب المبني على البراهين وما ثبت من المدارس التي تستثمر النمط المعيشي والتغذية الصحية وتوظفها لأجل التعافي من الأمراض المزمنة.
إن من شأن إعطاء ملف المشي وتحسين النمط المعيشي دوره في رعاية مرضى الأمراض المزمنة وبطريقة مؤسسية ومنهجية وقيام النظام الصحي بمتابعة مؤشراتها، من شأنه أن يضمن بإذن الله وصولنا حيث نريد وفق رؤية المملكة التي نتفق جميعا على العمل على الوصول لمقتضياتها. ودمتم سالمين
د. صالح بن سعد الأنصاري
مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
المشرف على مركز تعزيز الصحة بالرياض