“التقنية الذكية” في خدمة الرعاية الصحية
يشهد عالم العناية الصحية والخدمات الطبية تغييرات متتابعة واصلاحات هيكلية وبنيوية سعيا لرفع سوية الجودة والارتقاء بمستوى السلامة و مدى فاعلية كل العمليات المتعلقة بالعناية بالمريض. ويدفع هذا التوجه الى فتح افاق جديدة لاستخدام وتحسين استخدام الاجهزة والتقنية ورفع معايير العمل مع المحافظة على خفض النفقات. وفي هذا السياق تقوم الجهات المشرفة على اعتماد وترخيص وتنظيم عمل المؤسسات الصحية على التحقق من توفر الادلة الحسية والتوثيق للإجراءات المتبعة من قبل المستشفيات والمراكز الصحية أثناء عملها. فلا يكفي لمنح الاعتماد للمؤسسات الصحية وجود مقاييس لمخرجات الرعاية الصحية بل يحتاج الامر لوجود براهين وتوثيق لكل اجراء يتخذ لرفع جودة الخدمة والعناية بالمريض.
فمثلا لا بد من توثيق ودليل على ان المرضى الذين تجرى لهم عمليات جراحية يتم اعطاؤهم المضاد الحيوي المطلوب فيما لا يزيد عن 60 دقيقة من بدء عمل مبضع الجراح. مما يشير الى ازدياد اهمية التوثيق الدقيق من قبل الفريق الطبي للإجراءات المتخذة حيث يؤدي ذلك الى تحقيق أهداف المؤسسة الصحية فضلا عن المحافظة على سلامة المريض.
واستجابة لهذه الحاجات والمتطلبات يوفر مصنعو الاجهزة الطبية الكثير من الخصائص “الذكية” ضمن منتجاتهم لضمان الحصول على فعالية أعلى الى جنب مستوى من السلامة افضل. وفي هذا الاطار يتعامل الممارس الصحي مع عديد من الاجهزة الطبية التي تحتوي بيانات ومعلومات مهمة عن مجريات الاجراءات المنفذة وعن طبيعة الحالة تحت العلاج. وهذا بدوره يتطلب مهارات تمكنه من تجميع البيانات المتوفرة من المصادر المختلفة واتخاذ القرار الافضل من الناحية الطبية وكذلك ادارة وحفظ البيانات والمعلومات الصحية لحالة المريض. فهل يقوم المعالج بتوفير المعلومات الى زميل آخر أم حفظها في الملف الالكتروني للمريض أم التعامل معها بكيفية أخرى.
وفي كل الاحوال فان معالجة البيانات المتوفرة واتخاذ القرار الطبي بناء عليها يحتاج الى خطوات اضافية تتمثل في وقت اضافي واهتمام وتركيز ذهني واتخاذ اجراء محدد. وتهدف “التقنية الذكية” لتجنب هذه الخطوات الاضافية.
“التقنية الذكية” تعبر عن نظام يرشّد تسلسل الأعمال workflow بفعالية عن طريق تجميع الحلول الالكترونية المختلفة في اطار موحد يتغلب على مشكلاتها بتكامل وتناسق ينتج تسلسلا انسيابيا للأعمال والاجراءات يستخدمها الممارس الصحي حيث يوجد المريض. وتعطي “التقنية الذكية” تحسينا في الجودة بتقليل فرص حدوث الاخطاء وترتيب اولويات الاجراءات مع تنبيه الممارس الصحي للمهمات والواجبات المطلوب تنفيذها في وقتها. كما يوفر النظام توثيقاً لحظيا للإجراءات حال تنفيذها وفي مكان تنفيذها دون الحاجة للتنقل بين مكان العلاج – غرفة المريض- وقاعة الحاسب او الادارة. وهذا التوثيق يمنع حدوث اخطاء النسخ والكتابة الطبية للتقارير .Transcription Errors
فوائد “التقنية الذكية” للفريق المعالج
التوثيق اللحظي المباشر للإجراءات الطبية وعرضها في مكان المعالجة يوفر تواصلا شفافا بين اعضاء الفريق الطبي المعالج. فمثلا توثيق العلامات الحيوية لحظيا من قبل مساعد التمريض يجعلها متاحة فورا للممرض في مكانه مما يسهل عليه استلام ادوية ارتفاع ضغط الدم مثلا واعطائها للمريض دون الحاجة للمرور بغرفة المريض لمعرفة قيمة الضغط ثم الذهاب لاستلام الدواء وفي هذا تقليل للخطوات وتوفير للجهد والوقت.
وهذه الانسيابية في الاجراءات تقلل الانقطاعات والتوقفات في المعالجة والتي تعتبر مصدرا للأخطاء وخاصة الناتجة عن تجاوز والقفز عن بعض الاجراءات. وفي الجانب الاخر تعطي للممارس الصحي فعالية اكثر أثناء الممارسة مرتبطة باختصار الخطوات اضافة الى تقليل التكلفة الاضافية للعمل وما يصاحبها من مزايا.
فمثلا اخطاء تجاوز بعض الاجراءات Errors Of Omission كعدم تغيير وضعية المريض العاجز عن الحركة كل ساعتين وبشكل متواصل يمكن ان يؤدي تقرحات جلدية اضافة لمعاناة والام المريض والمضاعفات الاخرى . ولتجنب كل هذه الاشكالات يمكن للتقنية الذكية استحداث ” تنبيه” اليكتروني بجنب سرير المريض يذكر الممرض بالقيام بتغيير وضعية المريض كل ساعتين مع توثيق دقيق لإجراء واستجابة الممرض للتنبيهات. ويمكن ايضا للتقنية الذكية والحال هذه تحليل البيانات السريرية للمريض وتحديد أولويات ما يجب عمله.
كما يمكن للطبيب التواصل المرئي والمسموع مع المريض والفريق الطبي عن بعد من خلال الانظمة الذكية المتصلة ب Telehealth التي تجهز بتقنية عالية الدقة والوضوح بحيث يستطيع الطبيب تشخيص الحالة ومشاهدة المريض عن بعد مما يوفر الوقت ويدعم الرعاية المستمرة للمريض بدون تأخير أو انقطاع.
فوائد “التقنية الذكية” للمريض وعائلته
تقدم “التقنية الذكية” العديد من المزايا للمريض وعائلته حيث يمكن الطلب السريع اليكترونيا لحاجات المريض من أغطية أو ماء أو خدمات التمريض والرعاية الشخصية الاخرى. فبدلا من استخدام نظام الخدمة بالهاتف او الجرس الضوئي التي تعطي الطلب الى مشرف \ مشرفة التمريض فان الطلب يذهب مباشرة للجهة المعنية بتنفيذ الخدمة مما يقلل الوقت ويرفع مستوى الرضا والراحة من قبل المريض ومرافقيه من العائلة.
كما يمكن الاستفادة من “التقنية الذكية” في تثقيف المريض وعائلته ورفع مستوى الوعي الصحي لهم ويمكن توثيق وربط كل ذلك بالسجل الالكتروني للمريض بحيث يتم التثقيف والتوعية تفاعليا بناء على المعلومات المتوفرة في السجل الالكتروني وبناء على حاجة المريض مع حفظ كل الاسئلة والاستفسارات ضمن السجل.
ومن جانب آخر يمكن عرض الخطة العلاجية يوميا للمريض متضمنة الاجراءات الصحية وما تتطلبه من استعدادات او تهيئة من قبل المريض او عائلته اضافة لإظهار موعد الخروج من المستشفى ومتطلباته الصحية مما يساعد على متابعة حالة المريض وتطورها يوميا. كما يمكن تجهيز مختلف انواع التسلية والترفيه من افلام فيديو والعاب مع خدمات الانترنت والبريد الالكتروني الشخصي والتي تساعد المرضى على التواصل مع الاهل والاصدقاء وهذا اكثر اثرا على المرضى والحالات التي تتطلب اقامة طويلة في المستشفى .
اين وصلت “التقنية الذكية”؟
التطبيقات والحلول والانظمة المبنية على “التقنية الذكية” بدأت وتزداد ومن امثلتها المستخدمة حاليا نظام UPMC في مستشفى بيتسبرغ في بنسلفانيا. يعتمد هذا النظام على التعرف على حاجات -الطبيب \الموظف- للمعلومات المتوفرة في مكان معالجة المريض وبعد التحقق من شخصيته وموقعه يزوده بالمعلومات الحية الحالية من الانظمة السريرية للمستشفى مثل نظام الصيدلة او الاشعة او التحاليل الطبية بناء على الصلاحيات المتاحة له. كما يتم تزويد الطبيب او الممارس الصحي بصلاحية ادخال الطلبات وتنفيذ المهمات من النظام مع توثيق للخطوات والاجراءات في السجل الالكتروني للمريض ويتم كل ذلك باستخدام شاشة لمس في مكان رعاية المريض. وهذا بدوره يجعل المعلومات متوفرة لحظيا لجميع الفريق المعالج وحسب الحاجة والصلاحية.
وقد أدى استخدام هذا النظام الى تحسين حقيقي على جودة الخدمة من حيث تقليل وقت توثيق العلامات الحيوية بنسبة 82% اضافة الى خفض وقت توثيق الطلبات انشطة المريض اليومية بشكل ملحوظ. كما يحتوي النظام على ادوات تحديد الاولويات بحيث لو طلب المريض او مرافقه غطاء اضافيا وكان هناك طلب لقياس العلامات الحيوية فان النظام يوجه الممرض لتنفيذ قياس العلامات الحيوية كأولوية وتأخير تزويد المريض بالغطاء المطلوب.
ويضاف لذلك الكثير من الأدوات والوظائف المساعدة على تحسين رعاية المريض. فهناك وظائف كطباعة لواصق تعريفية بعينات التحاليل الطبية في مكان المريض وكذلك نظام ادخال الطلبات CPOE وغيره بجانب سرير المريض ويضاف الى ذلك امكانية التكامل مع باقي الانظمة والتجهيزات التي تستخدم التقنية الذكية. وبناء على التحسن الذي تم تحقيقه يزداد الطلب من الفريق الطبي لدمج مختلف الوظائف والانظمة في هذا الاطار.
العقبات
تظهر العقبات عادة في طريق تبني واعتماد أي تقنية جديدة. وحيث ان معظم تقنية الاتصال في المستشفيات ومنذ ثمانينيات القرن الماضي تستخدم نظام الاتصال الهاتفي HL7 مما يولد صعوبات في التكيف والتكامل مع الانظمة الذكية الجديدة القائمة على استخدام اجهزة حاسوب واتصال خليوي ذات سرعات عالية متسارعة. وخاصة ان معالجة البيانات وتناقلها بين انظمة مختلفة تحتاج الى تجهيزات اضافية من الناحية التقنية والبشرية مما يؤدي الى زيادة الكلفة الاقتصادية لاستخدام التقنية الذكية اضافة الى الثمن المرتفع لتركيب وتشغيل الانظمة الجديدة. وهذا يعني ضرورة دراسة جدوى الاستثمار في هذه التقنيات والعائد الاستثماري المتوقع.
وفي هذا السياق يبرز موضوع التكيف مع التقنية الجديدة من جانب العاملين في المجال الصحي فمع تحسين اجراءات العمل وما يرافقه من تطوير يبقى العامل البشرى وتقبله بل رضاه وتفاعله الايجابي مع الانظمة التقنية الذكية عاملا مهما للغاية في تحقيق أهداف تبني واستخدام هذه التقنية. ويمكن من خلال التدريب والتعليم تأهيل العاملين تذليل هذه العقبة بحيث تصبح التقنية الذكية جزءاً من الممارسة اليومية للمؤسسة الصحية. وحينذاك يرتفع مستوى التبني للتقنية والتكيف معها كجزء لا غنى عنه للطبيب والفريق الطبي العامل في تقديم الخدمات الصحية للمرضى.
[author image=”http://m-quality.net/wp-content/uploads/2015/08/Dr-Jabali-70×70.jpg” ] د.عبدالكريم الجبالي استاذ مشارك قسم ادارة وتقنية المعلومات الصحية-جامعة الدمام
من مقالات الكاتب :
للمزيد عن د.عبدالكريم الجبالي انقر هنا [/author]