الصادرة من جريدة – الجزيرة

مجلة الجودة الصحية

د.محمد عبدالله الخازم


أشار الدكتور أرنولد ريلمان، أستاذ الطب والاجتماع الطبي المتقاعد من هارفارد والخبير في النظام الطبي الأمريكي لأكثر من عقدين من الزمان، إلى أن أكبر مشكلة تواجه النظام الصحي الأمريكي – ومشاكله كثيرة – هي تشجيع الاستثمار الخاص الربحي في المجال الطبي، وهو المجال الذي يخص الناس كافة، أو العامة. ومما يثبت سلبية النظام الصحي الأمريكي هو كونه النظام الأكثر كلفة والأقل عدالة في توفير الخدمة الصحية للجميع، وبالذات في حالة مقارنته بأنظمة بقية الدول الصناعية الكبرى ككندا والمملكة المتحدة واليابان، وغيرها. ويضيف بأن الفئة المتحمسة للنظام الأمريكي المعتمد على القطاع الخاص الربحي هي في الغالب فئة المستفيدين منه، كالتجار المستثمرين في المجال والممارسين وحاملي الأسهم المستفيدين من التنافس التجاري وليس الصحي الحاصل في القطاع.

الولايات المتحدة ربما تكون الأولى تقنياً وعلمياً في المجال الصحي، ومراكزها تقدِّم أرقى الخدمات الصحية على مستوى العالم، ولكن بالنظر إلى النظام بشكل شامل ومدى عدالته وكفاءته في توزيع الخدمة الصحية وفق أدنى التكاليف نجده نظاماً متأخراً، مقارنة بكثير من الأنظمة العالمية، كما أكدت ذلك تقارير منظمة الصحة العالمية التي وضعته في مرحلة متأخرة مقارنة بدول أقل نمواً وتفوقاً في المجال الاقتصادي والعسكري والتقني.

الخدمة الصحية اجتماعية بالمرتبة الأولى، وليست استثمارية، وما يقال عن اختيارات الزبون التي توفرها الخدمات الصحية الخاصة غير دقيق، ولا يتوفر حتى في أمريكا؛ لأن الزبون/ المريض لن يكون في وضع اختيار حين يداهمه المرض. المريض ليس كالزبون الذي يتمكن من اختيار السوق الذي يشتري منه احتياجاته؛ وهذا ما يجعل النظم المتقدمة لا نشتري فيها الخدمة الصحية مباشرة بل عن طريق شركات التأمين الحكومية أو الأهلية، وليس مجرد باعة أو مسوقين لخدمة أو بضاعة محددة.

يبدو أننا سائرون في طريق عشوائي في تنظيم الخدمات الصحية. طريق لن يقود فقط إلى افتقار النظام الصحي إلى بعض أسس الكفاءة، وإنما إلى بعض مبادئه الأساسية التي ننشدها، كالعدالة والشمول. يحدث ذلك بمباركة من الجهات الصحية التخطيطية المعنية، التي لا تكتفي بتشجيع القطاع التجاري الصحي بل تحيل الخدمة الصحية إلى سلعة تجارية، أشبه ما تكون بالسلع الكمالية، يحصل عليها القادرون، وتستحيل أو هي صعبة المنال على الضعفاء الذين لا يملكون حظاً وفيراً من المال أو العلاقات.

حين أستعير شهادة الدكتور أرنولد فلا أزعم بأننا نسير نحو تطبيق النموذج الأمريكي بكامل حذافيره؛ لأننا لم نمتلك إيجابياته التقنية والتنظيمية والاقتصادية، ونفتقد التشريعات والتنظيمات والدراسات الصحية الواضحة في الترخيص والرقابة والتقييم الفعال. يقلقني أننا نزرع فوضى ونماذج مشوهة حين ألحظ الخدمات الصحية تتحوّل إلى تجارة أو سوق صحي، يشبه الحراج الذي يحوي ما هب ودب من السلع المختلفة، وكثير منها معطوب أو مقلد ورخيص القيمة العلمية والمهنية والأخلاقية.

أساس الخدمة الصحية الناجحة يتمثل في عدالة توزيعها، واحترام المهنة للمريض بوصفه مريضاً بتقديم ما يحتاج إليه وفق أفضل المعايير العلمية، وليس وفق متطلبات تعظيم الأرباح والتجارة. ونسأل دائماً: كيف يحافظ نظامنا الصحي على أخلاقياته المهنية، وهو يدفع الأطباء للتحول إلى تجار مشتتة أذهانهم بين الحكومي والخاص، الخاص والتعليمي، بين الإخلاص في خدمة المريض والإخلاص في خدمة الحساب المالي للشخص أو المؤسسة؟ هل نحن نتصور الأطباء وإداريي المستشفيات والمستثمرين بهذا النقاء والبياض والصفاء العادل حين نتوقع أن يفصلوا بين المصالح الخاصة بهم وبمؤسساتهم والمصالح الوطنية والاجتماعية العادلة في تقديم الخدمة الصحية؟ هل تحولت المؤسسات الصحية والعلمية ذات العلاقة وأنظمتها الواهنة إلى خادمة وحامية لأطماع تجار الصحة الجدد (الأطباء والمؤسسات الصحية الأهلية)؟ هل تحولت الأولوية من خدمة المريض إلى خدمة التاجر الصحي، فرداً كان أو مؤسسة؟ هل من أمل في تنظيم حراج الخدمات الصحية بالقطاع الخاص بتعزيز الجيد فيه، وإلغاء أو تقليص السلبي؟