حينما كُنت في الخامسة من عمري، كُنا أنا وعائلتي في مدينة إسطبنول التركية، كان والدي “الإعلامي”منغمساً في التصوير . وقد أنتهزت فرصة إنشغاله ومضيت أفتش في كتبه، طبعاً وقتها وبحكم عمري لم أكن أجيد القراءة ولا الكتابة، وأنا منشغلة في العبث والتنقيب بين الكتب، واجهت الكثير من الكلمات التي لم أعرف نطقها ولا تهجيها ولاحتى معناها. أنزعجت من كوني لماذا لا أفهم مايُكتب؟ و فجأةً  قررت أن أُمسك الكتاب بيدي اليمنى، وبيدي اليسرى مثلّت إني أُمسك مُكبّر صوت، وصرت أخذ نفساً عميقاً وأحاول التحكم بنبرة صوتي  الطفولية وقتها، وأقول ؛ ” إن درجة الحرارة في أنقرة تبدو منخفضة اليوم، بينما نتوقع أن تهطل أمطار غزيرة على اسطنبول …” وأنا منغمسة في نشرتي الجوية والتي لا أعلم مناسبتها، رأيت والدي يتلفت إلي موجهاً بكاميراته علي ليصورني، وكان يسألني وماذا عن درجة الحرارة في جدة؟ ثم أُكمل على إسترسال “مازلت خمسون والحرارة مرتفعة جداً لذا ننصح السادة الأطفال بالبقاء في اسطنبول ” ينقطع التصوير، ويحفظ والدي المقطع، لنضحك عليه في كل مرة نشاهده فيها، ومن هُنا تبدأ الحكاية. 

كبرت وبعد إكمال دراستي المدرسية قررت أن ألتحق بقسم الإعلام! وهُنا واجهت الكثير من العوائق الفكرية الناتجة من من بعض ثقافة المجتمع، والتي تتمحور حول أن المجال الطبّي أفضل من بقية المجالات الأخرى وذلك مبني على عدة نواحي إعتقادية. و رغم إني كنت أرفض تلك الفكرة التحيُزية ، إلا أنه شاءت الأقدار و ألتحقت بالمجال الطبي وأكملت دراستي فيه، ولكن لازال الإعلام يداعب رأسي في محاضرات التشريح، ومصطلحات الأمراض، وكتب الإدارة الصّحية، كُنت في كل معلومة طبية أكتسبها، أفكر كيف أربطها بالإعلام ليستفيد منها المجتمع، حتى قررت وقتها تسخير موهبتي الإعلامية لخدمة المجال الصحي وقد بدأت العمل والكتابة مع مجلة صحية، ثُم أنتقلت لليوتيوب لتوصيل رسائل إعلامية تُفيد طلبة التخصصات الطبية، وكان الحافز الأعظم لكل ذلك، هوا أني وجدت الكثير من فئات المجتمع تجهل الكثير من هذه المعلومات فأصبح ذلك دافعاً كبيراً بالنسبة لي للدراسة والإكمال بشغف في هذا المجال، وذلك لتصحيح العديد من المفاهيم الطبية والإدارية الخاطئة لدى أفرد المجتمع. 

ومن هُنا جائتني فكرة” لماذا لا نستحدث بجامعتنا قسم الإعلام الصحي؟” إن الصحة بشكل عام علمُ متفرع وكبيرُ جداً، و من الصعب أن نجعل إعلامي مختصاً في مجال  الإعلام فقط أن يوصل رسائل طبية، دون علمه الدقيق بالأمراض والمصطلحات، والتأثيرات الإيجابية والسلبية. 

كما أنه لايكفي لمختص في المجال الطبي أن يتولى هذه المهمة فقد لا يملك الموهبة والعلوم الإعلامية الكافية لتجعله يوصل رسالة إعلامية واضحة وبسيطة للمستمع أو المشاهد!

كما أنه لو توفر العديد من المختصين في مجال “الإعلام الصحي” فإن كثيراً من العادات الصحية الخاطئة المنتشرة بين أفراد المجتمع سوف تقل، خاصةً أن المادة العلمية هنا ستكون موثوقة كما أن الموهبة والعلوم الإعلامية ستكون موجودة، مما يساعد الصحة في الوصول لأحد أهم أهدافها وهي ” المحافظة على صحة الفرد من الناحية الجسدية والنفسية والعقلية” هذا غير أن كثير من الفرص الوظيفية سوف تتوفر لدي شباب وشابات المجتمع  بدلاً من البطالة التي في الآونة الأخيرة ،صارت تنتج بشكل ملحوظ عن دراسة بعض الأقسام الجامعية. إن استحداث قسم الإعلام الصّحي في الجامعات السعودية سيؤدي لنقلة صحية وإعلامية عظيمة، خاصةً إذا كان هنالك تعاون بين وزاتي الصحة والإعلام مع وزارة التعليم في وضع الخطط والأهداف الدراسية، والعمل على توفير بيئة تدريبية لتنمية المهارات العلمية والمواهب الإعلامية. 

إن أعظم رسالة قد يرسلها “الإعلام” للفرد، هي رسالة تخص “صحته” التي إذا فقدها، فقد الفرد قوته وفقد المجتمع عزيمته.  

 

# إضاءة:  

لم أتوقع يوماً أن محاولاتي للعبث في كتب والدي ستجعلني أحب القراءة لأصبح يوماً كاتبة، كما لم يخطر ببالي أن نشرتي الجوية التي كُنت ألقيها بشكل مضحك، قد تجعلني يوماً أقابل جماهيراً عظيمة لأوصل لهم رسائل عديدة، والأهم من كل ذلك ، لم يحالفني اليقين ولا لحظة أني سأكمل وسأحب دراستي في المجال الطبي وإني سأصادف الإعلام في نفسي من جديد . لذلك لاتيأس مهما كانت الرياح تجري بما لاتشتهي سُفنك، سيأتي اليوم الذي تكون فيه أنت الرياح وأنت البحر وأنت السفنُ. 

 

– اُمنية يحي عبـاس نتـو.